لماذا بعض الدول غنية وأخرى فقيرة؟!

لماذا بعض الدول غنية وأخرى فقيرة؟!

 

علي الرئيسي **

لماذا تُعد بعض الدول غنية وأخرى فقيرة؟ هذا السؤال المليء بفضول الطفولة، هو الأكثر أهمية في الاقتصاد، وهناك العديد من التفسيرات التي طرحت من البيولوجيا إلى الوضع الجغرافي والظروف المناخية حتى الجيولوجيا.

غير أن مستوى معيشة الشخص يتحدد في الغالب ليس من خلال الموهبة أو العمل الجاد، بل من خلال متى وأين وُلد. تاريخيًا، كانت نماذج النمو الاقتصادي تركز على تراكم عوامل الإنتاج، مثل العمالة ورأس المال، ومؤخرًا، التكنولوجيا أو الأفكار. كلما كان رأس المال المتوفر لكل عامل أكبر، واستخدامه أكثر إنتاجية، كانت الدولة أغنى.

ومع ذلك، لا تزال هناك فجوة. لماذا نجحت بعض الدول في تراكم المزيد من هذه العوامل مقارنةً بأخرى؟ الحائزون على جائزة نوبل في الاقتصاد هذا العام، يعزون ذلك إلى جودة الحكومة والمؤسسات القائمة. وفي عام 2001، نشر الثلاثة: دارون إسيموغلو وسيمون جونسون (كلاهما من معهد ماساتشوستس للتكنولوجياMIT ) وجيمس روبنسون من جامعة شيكاغو، ما أصبح أحد أوراق البحث الأكثر اقتباسًا في الاقتصاد، بعنوان “الأصول الاستعمارية للتطور المُقارَن.. دراسة تجريبية”. وفي هذه الورقة، طور الباحثون مُخطَّطًا للمؤسسات؛ مقسمين إياها إلى “شاملة” (تلك التي تشارك الازدهار)، و”استغلالية” (تلك التي استغل فيها مجموعة صغيرة بقية السكان). وتشجع المؤسسات الشاملة الاستثمار في رأس المال البشري والفيزيائي، في حين أن المؤسسات الاستغلالية تُعيقه.

لم تكن فكرة أن المؤسسات تشكل عنصرًا أساسيًا في النمو الاقتصادي جديدة. فقد كان هذا هو رأي دوغلاس نورث، الذي فاز بجائزة نوبل في عام 1993، إلى جانب المؤرخ الاقتصادي الروسي روبرت فوجل. وكانت المشكلة التي بحثها الحائزون على الجائزة هذا العام تتلخص فيما إذا كانت التنمية تُشجِّع الليبرالية، وليس العكس؛ فالمجتمعات الأكثر ثراءً قد تؤدي- على سبيل المثال- إلى إصلاحات ديمقراطية.

لكن كيف يمكننا أن نعرف أن السببية تنبع من وجود المؤسسات وتؤدي إلى الرخاء الاقتصادي وليس العكس؟ فضلًا عن ذلك، كيف يمكننا أن نتأكد من وجود سببية على الإطلاق؟ علاوة على أن البلدان الغنية تختلف عن البلدان الفقيرة في كثير من النواحي، وليس فقط في نوع المؤسسات التي تمتلكها، ومن الممكن أن تؤثر هذه الاختلافات بدورها على مؤسساتها، بجانب نموها الاقتصادي.

لقد استخدم الباحثون: أسيموجلو وجونسون وروبنسون “نهج المُتغيرات الآلية” لحل اللغز، وقد استغل هذا النهج الاختلافات في معدل الوفيات بين المُستوطنين لتحديد المُستعمَرات الأوروبية التي طوَّرت مؤسسات شاملة، وتلك التي طورت مؤسسات استخراجية. وفي المستعمرات التي كانت معدلات الوفيات فيها مرتفعة، بسبب الأمراض الاستوائية على سبيل المثال، استغلت القوى الاستعمارية العمالة المحلية. وقد يكون هذا في شكل نظام “الإنكوميندا” في أمريكا الجنوبية، الذي استعبد السكان المحليين، أو مزارع المطّاط في الكونغو البلجيكية (تحت الاستعمار البلجيكي من 1908 إلى 1960). وفي الوقت نفسه، اجتذبت معدلات الوفيات المنخفضة في الفروع الناطقة باللغة الإنجليزيةــ أمريكا وأستراليا وكندا- المستوطنين الأوروبيين من خلال منحهم فرصة المشاركة في الثروة التي أنتجوها من خلال الملكية الخاصة والأسواق الحرة.

وعلى هذا النحو، كان هناك “انعكاس في الحظوظ” بين المستعمرات؛ فالأثرياء في عام 1500، وفقًا لقياس التحضُّر، أصبحوا الأفقر في العصر الحديث. وافترض الباحثون الثلاثة كذلك أن هذا يرجع إلى أن الثروة الأكبر للمستعمرات الغنية ذات يوم شجّعت على تطوير أساليب الاستخراج، في حين وفّرت أعداد السكان الأعلى قوة عاملة يُمكن إكراهها على العمل في المناجم والمزارع.

لقد افترض الباحثان أسيموجلو وروبنسون أن الدول قد تتعثر في ظل مؤسسات فقيرة. ففي مجتمع شديد التفاوت قد يهدد الفقراء بالثورة، وأن أيَ التزام من جانب النخب بإعادة توزيع الثروة استجابة لذلك لم تكن لها أي مصداقية؛ فقد كان بوسعها دومًا أن تغير رأيها عندما يختفي التهديد. ونتيجة لهذا، كانت الدول غير المتساوية عُرضة لعدم الاستقرار. وكانت الضوابط والتوازنات تمثل استجابة لمشكلة الالتزام هذه؛ فإذا تم تقييد النخب، فإن وعودها بإعادة التوزيع سوف تؤخذ على محمل الجد، وسوف يتم إحباط أي تهديد ثوري. وهذا هو السبب، كما اقترح المؤلفان، وراء قيام الدول الأوروبية بتوسيع حق الانتخاب الديمقراطي في أوائل القرن التاسع عشر.

ولقد شكك المؤرخون في التقسيم الدقيق للمؤسسات الاستخراجية والمؤسسات الشاملة. فقد تطورت كوريا الجنوبية في ظل دكتاتورية عسكرية. وسمحت الثورة المجيدة في إنجلترا عام 1688، والتي حددها أكيموغلو وروبنسون باعتبارها النقطة التي بدأ عندها صعود البلاد، للبرلمان بطرد الفلاحين فضلًا عن تقييد الملك. أما تطور أميركا فقد جمع بين الحقوق الفردية والديمقراطية للرجال البيض والعبودية والحرمان من حق التصويت لأقرانهم السود.

كما شكّك الكثير من الاقتصاديين في مدى تطابق هذه الاستنتاجات مع التطور الذي حصل في البلدان الأكثر نموا مؤخرا، وهما: الصين والهند؛ حيث إن الصين في الثلاثة عقود الماضية كانت الأكثر نموًا مع غياب تام للمؤسسات ذات البعد الشمولي أو الليبرالي حسب تعريفهم. كما إن الهند اخذت تنمو بوتيرة اسرع في ظل حكومة مودي المتشددة، ان ذلك ينطبق أيضا على كل من سنغافورة وفيتنام إلى حد ما. الفائزون بالجائزة تجاهلوا الهيمنة الامبريالية وبالذات دور الشركات المتعددة الجنسيات ومؤسسات التمويل العالمية في عملية إعاقة نمو مستدام للدول النامية.

وعلى الرغم من كل المناقشات الدائرة حول الأساليب، فقد أثبتت أبحاث الفائزين بالجائزة- بلا شك- أهمية الخصوصية التاريخية، وإبعاد اقتصاديات التنمية عن نماذج النمو المجردة. وكان عملهم بمثابة انفصال عن النظريات التي تفترض مسارًا حتميًا نحو التحديث استنادًا إلى التجارب غير العادية التي شهدتها أوروبا الغربية.

ورغم أن الباحثين أسيموجلو وجونسون وروبنسون ربما لم يتمكنوا من تقديم وصف كامل للأسباب التي تجعل بعض البلدان غنية وأخرى فقيرة، فإنَّ الأجيال الجديدة من خبراء الاقتصاد أصبح لديهم أساس متين يُمكنهم البناء عليه.

** خبير اقتصادي

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *