كشف الستار عن حالة ظَفَار للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (17)

كشف الستار عن حالة ظَفَار للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (17)

 

تحقيق: ناصر أبوعون

يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [(بَيَانٌ) فِيْمَنْ مَلَكَ ظَفار.. وَ(تَعَاقَبَ) عَلَيْهَا مِنَ الْمُلُوْكِ، وَ(الْأَيَّامِ دُوَلٌ). وَبِكُلِ أَسَفٍ (نَعْتَذِرُ لِلْقَارِيءِ الْكَرِيْمِ لِعَدَمِ تَوَافِرِ الْمَادَةِ لَدَيْنَا)؛ (لِأنَّا) (لَمْ نَجِدْ تَارِيْخًا مُسْتَوْعِبًا)؛ فَنَقُوْلُ: إِنَّ ظَفَار لاشَكَّ كَانَتْ فِي (أَيَّامِ دَوْلَةِ بَنِي مَرْوَانَ) تَحْتَ سِيَادَتِهِمْ وَسُلْطَتِهِمْ إِذْ (لَمْ يَشِذّ عَنِ النُّفُوذِ الْأُمَوِيِّ شَيْءٌ مِنْ جَزِيْرَةِ الْعَرَبِ وَمَا جَاوَرَهَا). وَ(أَرَادَتْ عُمَانُ الْخُرُوْجَ مِنْ رِبْقَتِهِمْ) فَجَهَّزَ الْحَجَّاجُ بِنْ يُوسُفَ لَهَا جَيْشًا تَحْتَ قِيَادَةِ (القاسم بن شعوة) فَهَزمُوه وَقَتَلُوه؛ وَلِكِنَّ (الحَجَّاجَ مَا فَتُرَتْ هِمَّتُه، وَلَا كَلَّتْ عَزِيْمَتُه)، فَأَرْسَلَ لَهَا جَيْشًا آخَرَ تَحْتَ قِيَادَةِ أَخِ الْمَقْتُولِ (مجاعة بن شعوة)، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا بَعْدَ قِتَالٍ عَنِيْفٍ وَ(وَقَائِعَ يَشِيْبُ مِنْ هَوْلِهَا الْوَلِيْدُ)، وَقَدْ تَكَفَّلَ التَّارِيْخُ بِذِكْرِ ذَلِكَ. وكَذَلِكَ (يَظْهَرُ بِالاسْتِقَرَاءَاتِ) أَنَّ ظَفَار أيضًا في (صَدْرِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ) كَانَتْ تَحْتَ نُفُوْذِهِمْ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى مَا طَرَأَ عَلَيْهَا فِي حَالِ (اِخْتِلالِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ)، وَمَا (مَنِيَتْ بِهِ) (زَمَنَ الْأَتْرَاكِ)].

*****

– قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(بَيَانٌ) فِيْمَنْ مَلَكَ ظَفار.. وَ(تَعَاقَبَ) عَلَيْهَا مِنَ الْمُلُوْكِ، وَ(الْأَيَّامِ دُوَلٌ). وَبِكُلِ أَسَفٍ (نَعْتَذِرُ لِلْقَارِيءِ الْكَرِيْمِ لِعَدَمِ تَوَافِرِ الْمَادَةِ لَدَيْنَا)؛ (لِأنَّا) (لَمْ نَجِدْ تَارِيْخًا مُسْتَوْعِبًا)؛ فَنَقُوْلُ: إِنَّ ظَفَار لاشَكَّ كَانَتْ فِي (أَيَّامِ دَوْلَةِ بَنِي مَرْوَانَ) تَحْتَ سِيَادَتِهِمْ وَسُلْطَتِهِمْ إِذْ (لَمْ يَشِذّ عَنِ النُّفُوذِ الْأُمَوِيِّ شَيْءٌ مِنْ جَزِيْرَةِ الْعَرَبِ وَمَا جَاوَرَهَا)].

معانٍ لغوية قصدها الشيخ الطائيّ

-[(بَيَانٌ)] البيان عن الأمر: الإظهار والإيضاح له. وشاهده من النثر العربيّ الرَّصين في قول مخالس بن مُزاحم الكلبيّ:“وَإِنِّي أَعُوْذُ بِجِدِّكَ الْكَرِيْمِ، وَعِزِّ بَيْتِكَ الْقَدِيْمِ، أَنْ يَنَالَنِي مِنْكَ عِقَابٌ، أَوْ يُفَاجِئُنِي مِنْكَ عَذَابٌ، قَبْلَ الْفَحْصِ وَ(الْبَيَانِ)، عَنْ أَسَاطِيْرِ أَهْلِ الْبُهْتَانِ”(01)

– [(تَعَاقَبَ)]، أي:(تَتَابَعَ)، ويُقال تَعَاقَبَ المَلَكَانِ وغيرهما: تَتَابَعَا واحدًا بعد الآخر. ونجد شاهدُها في الحديث النبويّ “إِنّ لِلهِ مَلَائِكَةً يَتَعَاقَبُوْنَ؛ مَلَائِكَةَ الَّليْلِ، وَمَلَائِكَةَ النَّهَارِ”(02)

– [(الْمُلُوْكِ)] جمعٌ قصد به الشيخ عيسى الطائيّ (الإجمال) بعده (تفصيل) في الصفحات المتتالية من المخطوط. وقَصَدَ بـ(المُلُوك) سلاطين عُمان والحُكام العرب والأمراء والولاة الذين اِسْتُعمِلُوا على ظَفَار العُمانيّة عبر الأزمان.

 – [(الْأَيَّامِ دُوَلٌ)] (دُوَلٌ) جمعٌ مفرده:(دَوْلَة)، ولها معان عديدة، ولكن الشيخ عيسى الطائيّ قصد باستعمال صيغة الجمع في هذا الموضع الإشارة إلى معنيين اثنين فقط؛ فأمّا المعنى الأول فقد أراد به الشيخ عيسى الطائيّ (حالةَ الزَّمان تنقلبُ مَسَرةً)، ونقرأ شاهدها في قول عَدِيّ بن زيد العِبَاديّ: [وَفَتَىً مِنْ دَوْلَةٍ مُعْجِبَةٍ// سُلِبَتْ عَنْهُ، وَلِلدَّهِرِ (دُوَلْ)](03)

وأما المعنى الثاني، الذي تَقَصّده الشيخ الطائيّ (الدَّورة والكَرَّة تدور سِجَالا بين الناس)، وشاهدها نقرأه في خُطبة هشام بن عبد مناف القُرشيّ:(أَيُّهَا النَّاسُ: الْحِلْمُ شَرَفٌ، والصَّبْرُ ظَفَرٌ، وَالْمَعْرُوفُ كَنْزٌ، والْجُودُ سُؤْدَدٌ، والْجَهْلُ سَفَهٌ، والأَيَّامُ [دُوَلٌ]، وَالدَّهْرُ غِيَرٌ)(04)

عُمان في العصر الأُمويّ

– وفي قول الطائيّ[(إِنَّ ظَفَار لاشَكَّ كَانَتْ فِي (أَيَّامِ دَوْلَةِ بَنِي مَرْوَانَ) تَحْتَ سِيَادَتِهِمْ وَسُلْطَتِهِمْ)] أطلق الجزء (ظَفار) وأراد الكل (عُمان)، وليس القصد (ظفار) فقط؛ بل عُمان أجمعها، و”يمكن تقسيم تاريخ بلاد عُمان السياسيّ في العصر الأمويّ إلى ثلاث فترات: الفترة السفيانيّة (41هـ – 64هـ/ 661م-684م)، والفترة الزبيريّة التي سيطر فيها عبد الله بن الزبير على أغلب الأقاليم الإسلاميّة (64هـ – 73هـ/683م-692م)، والفترة المروانيّة؛ و”تبدأ بخلافة مروان بن الحكم (64هـ – 684هـ)، وقد استمر هذا الفرع من الأسرة الأمويّة في الحكم حتى سقوط الدولة الأمويّة (132هـ 750م)، وكانت بلاد عُمان في بداية هذه الفترة تتمتع باستقلالها تحت سيادة سليمان وسعيد ابني عَبّاد بن الجلندى؛ اللذين كان يُسيطران على عُمان خلال فترة عبدالله بن الزبير (64هـ – 73هـ)، وتفيد الروايات المتقدمة بأنّ الحجاج بن يوسف الثقفيّ لم يعين عاملا على عُمان، بل كان يرسل عليها الحملات العسكرية تترَى لإخضاعها لسلطة الأمويين، وقد باءت جميع حملاته بالفشل والهزيمة”(05)

لماذا أراد الحجّاج غزو عُمان؟

في البحث حول الدوافع التي تقف وراء إصرار الحَجَّاج بن يوسف الثقفي ومداومته على إرسال الحملات العسكريّة تترى على عُمان في العصر الأمويّ(المروانيّ)؛ حيث”تفيد الروايات المتقدمة بأنّ الحجاج لم يعين عاملا على عُمان، ودَاومَ على إرسال الحملات العسكرية عليها، وقد باءت جميعها بالفشل والهزيمة”(06) “على يَدَي سعيد وسليمان ابني عبّاد بن الجلندى اللذين كان يحكمان عُمان ويحظيان باستقلالهما”(07)، ويؤكد خليفة خياط أن “الحَجَّاج أرسل جيشا إلى عمان بقيادة (موسى بن سنان بن سلمة)”(08)، “ولم ينجح في القضاء على حكم ابني الجلندى”(09)، ثم “أرسل الحجاج جيشا ثالثا بقيادة (الطفيل بن الحصين البهرانيّ)”(10)، “فاستولى عليها، ثم تولى حكمها بعده (حاجب بن شيبة) الذي توفي فيها ثم عاد أبناء الجلندى إلى سُدّة الحُكم وطرد الأزدُ أتباع الحجّاج “(11)

وقد أجمع المؤرخون القدامى والمحدثون على ستة دوافع كانت وراء تتابع الحملات العسكريّة للحَجّاج بن يوسف الثقافيّ على عُمان رصدها جميعًا الباحث إبراهيم عبدالعزيز الجميح في بحث مطوّل له منشور بمجلة جامعة الملك عبد العزيز، على النحو التالي:

أولًا- لقد كانت عُمان تُمثل تحديًا كبيرًا أمام الاستراتيجية التوسعّية التي اعتمدها الحَجَّاج لبسط نفوذ الدولة الأموية في الفترة المروانيّة.

ثانيًا- “كان الموقع الجغرافيّ الاستراتجيّ لعُمان مُغريًا للحَجّاج كونه تمثل أهمية خاصة على طول خطوط الملاحة التِّجارية على المحيط الهنديّ وسواحله”(12)، ثالثًا- تعاطف ومشاركة العُمانيين في الثورات المعارضة لسياسات بني أمية، وحدث هذا مع تشكُّل تحالف “ميمون الحروريّ”(13) مع “الريان النكريّ”(14).

رابعًا- “تحولت عُمان في الفترة المروانيّة إلى أرض خِصبة ونشطة للحركة الإباضية التي كان تأثيرها قويًا في البصرة، بل وتلقى رواجًا كبيرًا”(15).

خامسًا- تزايد نفوذ جابر بن زيد في العراق وانتشار تعاليمه وأفكاره الإباضية الثوريّة في البصرة”.

سادسًا- كانت عُمان في الفترة المروانيّة من العصر الأمويّ ملاذًا آمنا للخارجين على حُكم بني أميّة من أمثال: (عبد الله بن زياد بن ظبيان البكريّ)(16)، و(عبد الله بن الجارود العبديّ)(17)، و(عمران بن حطان الشيبانيّ)(18)، و(عبد الله بن الحارث بن نوفل)(19)، و(عبد الرحمن بن الأشعث)(20)

عُمان تقاوم جيوش الحجّاج

– قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَأَرَادَتْ عُمَانُ الْخُرُوْجَ مِنْ رِبْقَتِهِمْ) فَجَهَّزَ الْحَجَّاجُ بِنْ يُوسُفَ لَهَا جَيْشًا تَحْتَ قِيَادَةِ (القاسم بن شعوة) فَهَزمُوه وَقَتَلُوه؛ وَلِكِنَّ (الحَجَّاجَ مَا فَتُرَتْ هِمَّتُه، وَلَا كَلَّتْ عَزِيْمَتُه)، فَأَرْسَلَ لَهَا جَيْشًا آخَرَ تَحْتَ قِيَادَةِ أَخِ الْمَقْتُولِ (مجاعة بن شعوة)، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا بَعْدَ قِتَالٍ عَنِيْفٍ وَ(وَقَائِعَ يَشِيْبُ مِنْ هَوْلِهَا الْوَلِيْدُ)].

وقول الطائيّ [(وَأَرَادَتْ عُمَانُ الْخُرُوْجَ مِنْ رَبْقَتِهِمْ)] “فلمّا وقعت الفتنة، وافترقت الأمة، وصار المُلْكُ إلى معاوية، لم يكن لـ(مُعاوية) في عُمان سلطان، حتى صار المُلْكُ لـ(عبد المَلِكِ بن مروان)، واستعمل (الحَجَّاج) على أرض العراق. وكان ذلك في زمن (سليمان وسعيد ابني عبّاد بن عبد بن الجُلندى)، وهما القَيِّمانِ في عُمان فكان الحَجّاج يغزوها بجيوشٍ عظيمة، وهما يَفُضّان جموعه، ويُبيدان عساكره في مواطن كثيرة. وكان كلما أخرج إليهما جيشًا هزماه، واستوليا على سواده” [(فَجَهَّزَ الْحَجَّاجُ بِنْ يُوسُفَ لَهَا جَيْشًا تَحْتَ قِيَادَةِ (القاسم بن شعوة المُزْنِيّ)] في جمع كثير، وخميس جرّار. فخرج القاسم بجيشه، حتى انتهى إلى عُمان في سُفن كثيرة، فأرسى سفنه في ساحل قرية من قرى عمان يُقال لها (حِطَاط). فسار إليه سليمان بن عبّاد بن الجلندى بالأزد فاقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الهزيمة على أصحاب الحَجّاج، وقُتل القاسمُ وكثيرٌ من أصحابه، وقوادُه، واستولى على سوادهم فبلغ ذلك الحَجّاج فأصابه هَاِئلٌ”، وَلِكِنَّ (الحَجَّاجَ مَا فَتُرَتْ هِمَّتُه، وَلَا كَلَّتْ عَزِيْمَتُه)، فاستدعى (مجاعة بن شعوة) أَخِ الْمَقْتُولِ، وأمره أن يندب الناس ويستصرخهم، ويُنادي في (قبائل نزار) ويستعينهم، فجمع أربعين ألفا وأَرْسَلَهم إلى عُمان؛ فسار إليهم سليمان بن عبّاد بن الجلندى بسائر فرسان الأزد، والتقى بهم بقرب (بوشر)، في مكان يُقالُ له اليوم (البلقعين)، فاقتتلوا وانهزم أصحاب الحَجّاج، فأمعن سليمان بن الجلندى في طلبهم، وهو لايعلم بشيء من عسكر البحر، حتى وصلوا (جلفار)، فلقيهم رجل فأعلم جيش مجاعة بن شعوة بخروج سليمان بن عبّاد بن الجلندى بسائر العسكر للقاء الذين أقبلوا من البَرّ، وأنّ الباقين مع أخيه سعيد شرذمة قليلة، فواصل (مجاعة) السير حتى وصل (بركا)؛ فنزل إليهم سعيد بن عباد بن الجلندى فقاتلهم حتى حجز بينهم الليل. وتأمّل سعيد عسكره، فإذا هم في عسكر مجاعة كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، فعمد إلى ذراري أخيه وذراريه، واعتزل بهم الجبل الأخضر، فلم يزالوا محصورين حتى وافى أخوه سليمان. وكان مجاعة أرسى سفنه في بندر (مسكد) فمضى إليهم سليمان فأحرق منها نيفا وخمسين، وانقلب الباقون في لُجج البحر، ومضى يريد معسكر مجاعة فالتقى الجيشان في قرية (سمائل) ووقعت بينهم صَكَّة عظيمة وانهزم مجاعة، ولحق بسفنه فركبها ومضى إلى جلفار، وكتب إلى الحَجَاج فأمده من طريق البحر بخمسة آلاف عنان بقيادة عبد الرحمن بن سليمان الأمويّ، وكان بين جنوده رجل من الأزد فهرب حتى نزل على سليمان وسعيد ابني العباد بن الجلندى فأعلمهما بالخبر؛ فاستشعرا العجز فحملا ذراريهما وسوادهما ولحقا ببلاد الزنج، ودخل مجاعة وعبد الرحمن بن سليمان الأمويّ والعسكر إلى عُمان بَعْدَ قِتَالٍ عَنِيْفٍ وَ(وَقَائِعَ يَشِيْبُ مِنْ هَوْلِهَا الْوَلِيْدُ) ففعلا فيها غيرَ الجميل ونهباها”(21).

 وقول الطائيّ: [(رِبْقَتِهِمْ)] قصده السعي إلى الحصول على (الحكم الذاتيّ)، والانسلاخ من دولة بني أميّة التي طغى ولاتها واستبدّ عُمّالها. والرِّبقة في اللغة: العهد والعقد والواشجة التي ربطتهم بالمُلْكِ العضوض لبني أميّة، ونقرأ شاهدها في قول قيس بن الخَطيم الأوسيّ يفتخر بأخذه بالثأر: [ضَرَبْتُ بِذِي الرَّزَّينِ (رِبْقَة) مَالكٍ// فَأُبْتُ بِنَفْسٍ قَدْ أَصَبْتُ شِفَاءَهَ](22)، وتُجمَع (الرِّبْقَة) على صيغ أربع هي: (رِبَاق)، و(رَبَائِق)، و(أَرْبَاق)، و(رِبَق)

 (أ)-(رِبَاق): وشاهدها في الحديث النبويّ{لا يُمْنَعُ سَرْحُكُمْ، وَلا يُعْضَدُ طَلْحُكُم، وَلَا يُحْبَسُ دُرّكُمْ، مَا لَمْ تُضْمِرُوا الإِمَاق، وتَأْكُلُوا (الرِّبَاق)}(23)

(ب)-(رَبَائِق): وشاهدها ورد في شعر كعب بن معدان الأشقريّ: [(أَزْمَانَ إِذْ كَانُوا خَوَلًا// مُتَقَلِّدِينَ (رَبَائِق) الْبُهْمِ](24)

(ج)-(أَرْبَاق): ونقرأها في نقائض الفرزدق: تَرَى (أَرْبَاقَهُم) مُتَقَلّدِيها// إِذَا صَدِيءَ الْحَدِيْدُ عَلَى الْكُمَاةِ](25)

(د)-(رِبَق): وشاهدها في قول شَمِر بنُ حَمْدَوَيْهِ الهَرَوِيّ اللغوي: “وَإِنَّمَا يُعَلِّقُ الْأَعْرَابُ (الرِّبَق) فِي أَعْنَاقِ صِبْيَانِهِمْ مِنَ الْعَيْنِ”(26)

حسناته مغمورة في بحر ذنوبه

وذكر الطائيّ اسم [(الْحَجَّاجُ بِنْ يُوسُفَ)] مقتضبًا بدون الترجمة له، وذلك لشهرته في الاستبداد والبطش التي طبقت الآفاق. واسمه كاملا الحَجّاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفيّ، وكنيته (أبومحمد)، ويُلقّب بـ(المبير). وُلِد سنة 40هـ، في الطائف، واتصل بقيبلة هذيل فصار فصيحا بليغًا، “وقال عنه عمرو بن العلاء: ما رأيتُ أحدًا أفصح من الحسن البصريّ والحجاج”(27)، وقال عنه الحافظ الذهبيّ: أهلكه الله كهلًا في رمضان سنة خمس وتسعين للهجرة، وكان ظلومًا جبّارًا سافكا للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء”(28). طاغية متجبّر لعب دورا في تثبيت أركان الدولة الأمويّة، وتوالت حملاته العسكريّة على عُمان لإخضاعها، و”زحف على الحجاز وقتل عبد الله بن الزبير، وفرّق جموعه، وحاصر مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق، فولاه عبد الملك بن مروان على المدينة والطائف ومكة والعراق وكانت الثورة قائمة فيها فقمعها، وثبتت له الإمارة 20 سنة، سيّر الفتوح، وخطط المدن، وبنى واسط”(29)

 ما الفرق بين العزيمة والهِمّة؟

جاء في (فيض القدير)؛ الفَرْقُ بَيْنَ العَزمِ والِهمَّةِ:”قال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: الهِمَّةُ: إجماعٌ من النَّفسِ على الأمرِ، وإزماعٌ عليه، والعَزمُ: هو العَقدُ على إمضائِه. وقال المُناويُّ: والهِمَّةُ أوَّلُ العَزمِ، وقد يُطلَقُ على العَزمِ القويِّ، فيُقالُ: له هِمَّةٌ عاليةٌ، وقال أيضًا: ويُطلَقُ الهمُّ والاهتمامُ على العَزمِ القويِّ”(30)، وقال ابنُ حِبَّانَ:”العَزمُ نهايةُ الهَمِّ، والعَرَبُ في لغتِها تُطلِقُ اسمَ البَداءةِ على النِّهايةِ، واسمَ النِّهايةِ على البَداءةِ، ومنه قولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ:{إذا همَّ عبدي بسيِّئةٍ فلا تكتُبوها عليه}، أي: إذا عزَمَ، فسمَّى العَزمَ همًّا، والهمُّ لا يُكتَبُ على المرءِ؛ لأنَّه خاطِرٌ لا حُكمَ له”(31)

وقول الطائيّ: [(ولكنّ الحَجَّاجَ مَا فَتُرَتْ هِمَّتُه)]: معناه: ما ضَعُفَتْ ولا سكنت حِدَّته، وشاهدها في قول امريء القيس بن حُجْر الكنديّ، يصف عراكًا بين ذئبٍ وعُقَاب: [يَلُوْذُ بِالصَّخْرِ، مِنْهَا، بَعْدَمَا (فَتَرَتْ)// مِنْهَا، وَمِنْهُ، عَلَى الصَّخْرِ الشَّآبِيْبُ](32)

أمّا قوله: [(وَلَا كَلَّتْ عَزِيْمَتُه)]: أيْ لا عَيَتْ ولا تَعِبَتْ، ونقرأها شاهدها في قول الشاعر متفاخرًا بقيادته الجيش في سيرٍ طويل دونما كَلَلٍ ولا ملل: [مَطَوْتُ بِهِمْ، حَتَّى (تَكِلَّ) مَطِيِّهِمْ// وَحَتَّى الْجِيَادَ مَا يُقَدْنَ بِأسَانِ](33)

الطائي يدعو لتطبيق منهج الاستقراء

– قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا بَعْدَ قِتَالٍ عَنِيْفٍ وَ(وَقَائِعَ يَشِيْبُ مِنْ هَوْلِهَا الْوَلِيْدُ)، وَقَدْ تَكَفَّلَ التَّارِيْخُ بِذِكْرِ ذَلِكَ. وكَذَلِكَ (يَظْهَرُ بِالاسْتِقَرَاءَاتِ) أَنَّ ظَفَار أيضًا في (صَدْرِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ) كَانَتْ تَحْتَ نُفُوْذِهِمْ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى مَا طَرَأَ عَلَيْهَا فِي حَالِ (اِخْتِلالِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ)، وَمَا (مَنِيَتْ بِهِ) (زَمَنَ الْأَتْرَاكِ)].

وقول الطائيّ: [(يَظْهَرُ بِالاسْتِقَرَاءَاتِ)]؛ فيه دعوة من الشيخ عيسى إلى تطبيق منهج الاستقراء في قراءة الأحداث التاريخية التي مرّت بها عُمان قاطبة وإقليم (ظفار) على وجه الخصوص، وهذا المنهج في حقيقته أحد أدوات (علم أصول الفقه)؛ و”الاستقراء لغةً: التتبّع، وفي الاصطلاح: تصفّح أمورٍ جزئية لنحكم بها بحكمها على أمرٍ يشتمل على تلك الجزئيات. والاستقراء نوعان: النوع الأول: استقراء تام، وهو: ثبوت الحكم في كلية بواسطة إثباته بالتتبع، والتصفح بجميع الجزئيات ما عدا صورة النزاع. مثل قولنا: (كل حيوان يموت)، واتفق العلماء على حجيته؛ لكونه يفيد القطع؛ حيث إنه ثبت عن طريق استقراء جميع الجزئيات. أمّا النوع الثاني: استقراء ناقص، وهو: ثبوت الحكم في كلية، بواسطة إثباته بالتتبع، والتصفح لأكثر الجزئيات ما عدا صورة النزاع. مثل قولنا: (كل حيوان يحرك فكّه السفليّ عند المضغ)؛ لأن الإنسان والبهائم كذلك. وقد اختلف العلماء في حجيته على مذهبين: المذهب الأول: أنَّ الاستقراء الناقص حُجَّة، أي: أنه يفيد الحكم ظَنًّا. وهو مذهب الجمهور. والمذهب الثاني: أن الاستقراء الناقص ليس بحُجَّة، فلا يفيد الحكم قَطْعًا ولا ظَنًّا، وهو مذهب فخر الدين الرازي، وبعض العلماء”(34).

الطائيّ يوظِّف التَّناصّ القرآنيّ

وقول الطائيّ: [(وَقَائِعَ يَشِيْبُ مِنْ هَوْلِهَا الْوَلِيْدُ)]؛ فيه تناصٌ واقتباس من الآية القرآنية {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}(35)، ويقول ابن عاشور عن هذه الصورة الفنيّة “هي من مبتكرات القرآن فيما أحسب، لأنّي لم أر هذا المعنى في كلام العرب، وإسناد قوله تعالى: [يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا] إلى يوم القيامة مجاز عقليّ بمرتبتين؛ لأن ذلك اليوم زمن الأهوال التي تشيب لمثلها الأطفال، والأهوال سبب للشيب عُرْفًا. والشيب كناية عن هذا الهول فاجتمع في الآية مجازان عقليان، وكناية ومبالغة في قوله: [يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا](36)، ومعنى[(الوقائع)]: حروب وجولات، ومفردها (وَقِيعة)، ومعناها: القتال أو المعركة، ومنه: وقائع العرب: أيام حروبهم. و(تَوَاقَعَ الخُصُومُ: تقاتَلُوا)، وتُجمَع(وَقِيعة) على صيغتين:

(أ) (وِقَاع)، ونعثر على شاهدها في شعر عَدِيَ بنُ زَيدٍ العِبَادِيَ في قوله: [ لَيْسَ لِلْمَرْءِ عُصْرَةٌ مِنْ (وِقَاع) الـ// دَّهْرِ تُغْنِي عَنْهُ شِبَامَ عَنَاقِ](37)

(ب) (وقائع): وشاهدها في بيت شعر لعمرو بن كلثوم الكلبيّ: سَقَيْنَاهُمْ بِكَأْسِ الْمَوْتِ صَرْفًا// ولَاقَوا فِي (الْوَقَائِعِ) أَقْوَرِيْنَا](38)

والمقصود بقول الطائيّ: [(يَشِيْبُ)]: من (الشَّيْب): الشعر المُبْيَض من كِبَرٍ أو نحوه. ونقرأ شاهده في شعر دَوْسَر بنُ ذُهَيل القُرَيعيّ: [وَإِنْ يَكُ شَيْبٌ قَدء عَلَانِي فَرُبَّمَا// أَرَانِي فِي رَيْعِ الشَّبَابِ مَعَ الْمُرْدِ](39)

وقول الطائي: [(هَوْلِهَا)]، معناه: الفزع والخوف، ونجد شاهده الشعريّ في قول لَقيط بنِ يَعْمُر الإِيَادِيّ: [وَقَدْ أَظَلَّكُمْ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ//هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ تَغْشَاكُمُ قِطَعَا](40)ويجمعُ الهول على أربع صيغٍ: منهن صيغة واحدة شهيرة تتداولها الألسن وثلاث صِيغٍ أخرى غير مطروقات في الاستعمال المعاصر وهي على النحو التالي:

(أ) (هُؤُول): وشاهده من إنشاد أبي زيد الأنصاريّ: [رَحَلْنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي تَمِيْمٍ// إِلَيْكَ وَلَمْ تَكَاءَدْنَا (الهُؤُولُ)](41)

(ب) (أَهَاوِل): ونقرأ شاهد هذا الجمع في شعر الأسود بن مُقرن الميميّ: [وَكَمْ قَدْ أَغَرْنَا غَارَةً بَعْدَ غَارَةٍ// يَوْمًا، وَيَوْمًا قَدْ كَشَفْنَا أَهَاوِلَه](42)

(ج) (أَهَاوِيل): وشاهده في شعر عبيد بن عبد العزّى السّلاميّ الأزديّ: [دَعَانِي بِهَا دَاعِي رَمِيْمٍ وَبَيْنَنَا// بَهِيْمُ الْحَوَاشِي ذُو (أَهَاوِيْلَ) أَغْضَفُ](43)

(د) (أهوال): ونطالع شاهده الشعريّ في ديوان تأبّط شرًا الفَهْميّ: يَا عِيْدُ، مَا لَكَ مِنْ شَوْقٍ وَإِيْرَاقُ// وَمَرِّ طَيْفٍ عَلَى (الأَهْوَالِ) طَرَّاقُ](44)

********

يُتبع،،،

المراجع والمصادر:

(44) ديوان تأبّط شرًا وأخباره، جمع وتحقيق وشرح: علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت، ط1، 1984، ص: 125

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *