دشن المغرب وفرنسا مرحلة جديدة من العلاقات الاقتصادية من خلال توقيع اتفاقيات استثمارية تشمل عدداً من القطاعات، زادت حصيلتها الإجمالية عن 10 مليارات دولار، وذلك عقب أول زيارة منذ ست سنوات، يقوم بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المملكة.
هناك علاقات اقتصادية راسخة بين البلدين. فالمغرب أكبر شريك تجاري لفرنسا في شمال أفريقيا، بينما تُمثل فرنسا أكبر شريك للمملكة في العالم. وبلغ حجم المبادلات التجارية بينهما العام الماضي 16.5 مليار دولار، وتحقق الرباط فائضاً مع باريس منذ 2017.
حلول ماكرون بالعاصمة الرباط كان في إطار زيارة دولة، ولذلك خُصصت له مراسم احتفالية كبيرة. وطيلة ثلاثة أيام قضاها في المملكة، تم توقيع أكثر من 30 اتفاقية بين القطاعين العام والخاص في البلدين. كما وجه ماكرون دعوة رسمية لملك المغرب لزيارة دولة إلى فرنسا، وسيتم الاتفاق على تاريخها عبر القنوات الدبلوماسية، وفق بيان للديوان الملكي المغربي الاثنين.
الصحراء مفتاح المصالحة
كان تحسن العلاقات على المستوى السياسي بين البلدين الدافع الأكبر لتدفق الاتفاقيات الاستثمارية التي كانت بمثابة “مصالحة” بعد سنوات من الفتور.
وتعد قضية الصحراء أحد أبرز الملفات التي كانت عالقة بين المغرب وفرنسا، فمنذ أن اعترفت الولايات المتحدة الأميركية بسيادة المملكة على الصحراء في العام 2021 في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، رفع المغرب سقف توقعاته من شركائه، وفي مقدمتهم فرنسا التي كانت تنتهج الحياد في هذه القضية. وفي خطاب ألقاه الملك محمد السادس في أغسطس 2022، أكد أن ملف الصحراء “هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”، معتبراً بشكل مباشر أنه هو المعيار الواضح “الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”.
وفي يوليو الماضي، عبّرت فرنسا بشكل صريح عن دعمها سيادة المغرب على منطقة الصحراء، ما فتح الباب نحو تحسن العلاقات الثنائية.
ملف الصحراء هو موضوع نزاع طويل مع جبهة “البوليساريو” التي تطالب بحق تقرير المصير. ويشدد المغرب على أحقية سيادته التاريخية على الإقليم، منذ أن غادرت إسبانيا المنطقة في عهد الاستعمار. واقترحت الرباط عام 2007 تطبيق حكم ذاتي في المنطقة، ولكنه لم يطبق حتى الساعة.
يرى الخبير الاقتصادي والسياسي عبد الغني يومني أن موقف فرنسا بخصوص الصحراء كان النقطة المركزية لبدء مرحلة جديدة، وأضاف في تصريح لـ”الشرق” أن “الموقف الفرنسي يدعم بناء الثقة بين البلدين، للمضي نحو مزيد من التقارب السياسي والاستراتيجي وتعميق العلاقات الاقتصادية”.
من جهته، يتوقع إدريس الفينة، رئيس “مركز المستقبل للتحليلات الاستراتيجية”، أن تشهد العلاقات بين البلدين دينامية غير مسبوقة في المستقبل، معتبراً في حديث لـ”الشرق”، أن النقاش بين الجانبين “كان صريحاً على المستويين السياسي والاقتصادي، وستكون هناك استثمارات مشتركة بين البلدين محلياً وقارياً”.
زيارة تاريخية
تحتل فرنسا المرتبة الأولى على مستوى الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب، حيث ضخت العام الماضي نحو 690 مليون يورو، وتأتي الإمارات في المرتبة الثانية بنحو 234 مليون دولار، تليها بريطانيا بحوالي 172 مليون دولار، وفقاً لإحصائيات مكتب الصرف، الجهاز الحكومي المعني بإحصاءات التجارة الخارجية.
تشمل الاتفاقيات الموقعة بين الرباط وباريس قطاعات عدة في مقدمتها صناعة الطيران، والبنية التحتية، والماء، والموانئ، والهيدروجين الأخضر، والسكك الحديدية، والزراعة، وصناعة الألعاب الإلكترونية، والطاقات المتجددة، إضافة إلى التكوين والثقافة والفن.
“الزيارة كانت تاريخية بكل المقاييس الدبلوماسية السياسية والاقتصادية والإنسانية”، بحسب يومني، الذي يشغل منصب مستشار مجلس الفرنسيين في الخارج (AFE)، وهو هيئة حكومية فرنسية استشارية. وأضاف أنها “ستفتح فصلاً جديداً من العلاقات الاستثنائية بين البلدين، لأنها شملت قطاعات متنوعة واستراتيجية”.
أكبر الشركات الفرنسية الموقعة على اتفاقيات استثمارية مع المغرب هي “توتال إنرجيز” حيث ستقوم بإنجاز مشروع ضخم لإنتاج الهيدروجين الأخضر. كما ستشارك “ألستوم” في توسيع خط القطارات السريعة، بعد أن أنجزت الجزء الأول عام 2018، في حين ستزيد شركة “سافران” استثماراتها في المملكة بإحداث موقع لصيانة وإصلاح محركات الطائرات.
شركة “فيوليا” هي الأخرى وقعت اتفاقية لإنجاز محطة تحلية مياه البحر في العاصمة الرباط، بقدرة إنتاجية تبلغ 300 مليون متر مكعب في السنة، ستكون الأكبر في أفريقيا، ومن شأنها دعم جهود المملكة في مواجهة الإجهاد المائي مع توالي سنوات الجفاف. كما ستنجز شركة “MGH Energy” مشروعاً لإنتاج الوقود الاصطناعي جنوب البلاد.
“من شأن هذه الاتفاقيات أن تزيد من أعمال 1300 شركة فرنسية في المغرب، وستحظى بدعم من الوكالات الحكومية الاستثمارية والبنوك الفرنسية للحصول على التمويلات اللازمة للمشاريع المعلنة”، بحسب يومني.
الصندوق السيادي و”OCP”
ستساهم بنوك ووكالات حكومية فرنسية كبيرة في حشد استثمارات بقيمة 3 مليارات دولار إلى المغرب، من خلال اتفاقية وُقعت بين الصندوق السيادي المغربي “محمد السادس للاستثمار” و”الوكالة الفرنسية للتنمية” (AFD) و”بنك الاستثمارات العمومي الفرنسي” (Bpi France).
تعد هذه الاتفاقية غير مسبوقة بين مؤسسة مغربية وفاعلين حكوميين رئيسيين في مجال الاستثمار في فرنسا، ويرتقب أن تستفيد أكثر من 1500 شركة مغربية من هذه التمويلات طيلة السنوات المقبلة.
الاستثمارات المرتقبة ستوجه بالأساس لمشاريع البنية التحتية المستدامة، ودعم صناعة الاستثمار برأسمال الشركات.
مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط “OCP”، المملوكة للدولة في المغرب، وأحد أكبر منتجي الأسمدة في العالم، وقعت هي الأخرى مع “إنجي” الفرنسية لحلول خدمات الطاقة المستدامة، شراكة استراتيجية لإطلاق العديد من المشاريع في مجال الطاقة المتجددة، وتخزين الطاقة والهيدروجين الأخضر والأمونيا، والبنية التحتية الكهربائية، وتحلية المياه المستدامة.
من شأن هذه الشراكة أن تدعم أكبر شركة حكومية لتنفيذ برنامجها الاستثماري بقيمة 13 مليار دولار، لزيادة القدرات الإنتاجية من الأسمدة، والاستثمار في إنتاج الطاقة الخضراء بواقع 5 غيغاواط، وتحلية مياه البحر بطاقة سنوية تبلغ 560 مليون متر مكعب، إضافة إلى إنتاج مليون طن من الأمونيا الخضراء، ليرتفع هذا الرقم إلى 3 ملايين طن في 2032.
لا اختلاف إلا في الكرة
كان الوفد المرافق لماكرون كبيراً ومتنوعاً، فبالإضافة إلى وزراء ورؤساء تنفيذيين لشركات حكومية وخاصة، رافقه عدد من الفنانين والمفكرين والرياضيين والكتاب والصحافيين، وأيضاً الرياضيين. وكان من ضمن من حضر حفل العشاء الملكي، أشرف حكيمي، اللاعب المغربي ونجم فريق “باريس سان جرمان” الفرنسي.
خلال كلمة ألقاها في البرلمان المغربي، قال ماكرون إن كرة القدم هي المجال الوحيد الذي سيكون موضوع خلاف بين البلدين، وأضاف مازحاً: “مباراة فرنسا والمغرب عام 2022 ستظل إحدى اللحظات الرائعة في كأس العالم الذي أقيم في قطر”، في إشارة إلى المباراة النهائية التي فاز فيها المنتخب الفرنسي على نظيره المغربي بهدفين لصفر، منهياً بذلك حلم أسود الأطلس بالفوز بكأس العالم.
من المقرر أن يستضيف المغرب فعاليات كأس العالم 2030 لكرة القدم، بشكل مشترك مع إسبانيا والبرتغال. وفي هذا السياق، أشار الفينة، إلى أن “فرنسا تسعى للاستفادة من الدينامية التي سيخلقها تنظيم كأس أمم أفريقيا العام المقبل، وكأس العالم، وهي مواعيد رياضية كبرى تحتاج إلى حشد تمويلات أجنبية، وستكون فرنسا إحدى الخيارات”.
يحتاج المغرب لاستثمار ما يناهز 5 مليارات دولار لتنظيم كأس العالم، بحسب تقرير لـ”صوجي كابيتال جستيون” (SogeCapital Gestion)، وهي شركة إدارة الأصول التابعة لبنك “الشركة العامة” المغربي. بينما يُتوقع أن تضخ هذه التظاهرة الرياضية 1.2 مليار دولار في شرايين اقتصاد المملكة، بحسب توقعات شركة “فالوريس سكيوريتي” المختصة بالتحليلات المالية والوساطة في البورصة المغربية.
ولكن عبد الغني يومني، مؤلف كتاب “المغرب وجيرانه المتوسطيين”، رأى أن “الاتفاقيات التي وقعت خلال زيارة ماكرون ستتجاوز آثارها الاقتصادية 10 مليارات دولار على المدى المتوسط، لأن هناك اتفاقيات أخرى ستأتي استعداداً لكأس العالم 2030”.
المصدر: صحيفة اقتصاد الشرق