جون مينارد كينز، أحد أبرز الاقتصاديين في القرن الماضي، كان يسعى بعد الحرب العالمية الثانية لإرساء نظام نقدي عالمي يحد من هيمنة الولايات المتحدة. فقد خرجت أميركا من الحرب كقوة مالية عالمية لا ينازعها أحد، بينما تراجع دور بريطانيا العظمى بشكل ملحوظ.
لم يتحقق حلم كينز بالكامل، فالمؤسسات المالية التي انبثقت عن اجتماع حاسم عُقد بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في بريتون وودز بولاية نيوهامشير عام 1944، أصبحت خاضعة لنفوذ أميركي كبير. ورغم التحديات المعاصرة، يحتفظ الدولار اليوم بمكانته كعملة أساسية في سوق الصرف الأجنبي.
خلال الاجتماع الذي أُقر خلاله الاتفاق، استشهد كينز بالمقطوعة الموسيقية “الأميرة النائمة” للمؤلف تشايكوفسكي، آملاً أن الجنيات الطيبات سيرشدن القائمين على النظام الجديد، حسب سيرة رواها زاكاري د. كارتر.
تحديات هيمنة الدولار المستمرة
لا تزال فكرة فقدان الدولار لمكانته، أو على الأقل تراجع هيمنته، حية، رغم أنها تبدو أحياناً كحلم بعيد المنال. فعلى مدار الثمانين عاماً الماضية، ظهرت العديد من التطورات التي بدت وكأنها تهديد حقيقي لهيمنة الدولار، من إلغاء ريتشارد نيكسون لنظام سعر الصرف الثابت، وظهور اليورو، وتفاقم العجز في الميزانية الأميركية والحساب الجاري، وأزمة الرهن العقاري، وصولاً إلى صعود الصين.
واليوم، يواجه مشروع جديد عوائق، حيث يدرس بنك التسويات الدولية، وهو نادٍ للبنوك المركزية، وقف مشروع منصة مدفوعات عابرة للحدود تدعمه روسيا ويهدف إلى الالتفاف على العقوبات الأميركية.
المبادرة، المعروفة باسم “إم بريدج” (mBridge)، طُورت بالتعاون بين البنوك المركزية لكل من الصين وتايلاند وهونغ كونغ والإمارات. وتُعد هذه المنصة بديلاً مغرياً لنقل الأموال دولياً دون الاعتماد على البنوك الأميركية. وكان مستقبلها من بين المواضيع التي نوقشت خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي الشهر الماضي، حسب ما نقلته “بلومبرغ” عن أشخاص مطلعين على المحادثات.
صراع للنفوذ المالي العالمي
وقد صرح أوغستين كارستينز، رئيس بنك التسويات الدولية، بأن البنك لا يمكنه دعم مشروع يشمل دولاً خاضعة للعقوبات، مثل روسيا التي فرضت عليها عقوبات منذ إرسال قواتها إلى أوكرانيا في 2022. ويعد البنك المركزي الروسي من أبرز الأهداف للعقوبات التي تستند إلى هيمنة الولايات المتحدة على التمويل الدولي ودور الدولار كعملة عالمية مهيمنة.
بطبيعة الحال، يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تقليص هيمنة الدولار، وكذلك الصين، التي تملك اقتصاداً أكبر وأقل خضوعاً للعقوبات. ومع ذلك، فإن بكين تدعم موسكو وتسعى منذ فترة طويلة إلى إضعاف هيمنة الدولار وتعزيز دور اليوان، الذي تزايدت أهميته تدريجياً. ورغم إحراز بعض التقدم، لا تزال حصة اليوان في الاحتياطات العالمية ضئيلة، بينما يبقى الدولار عملة رئيسية في عمليات الإقراض العالمية، بجانب أنه يستحوذ على حصة الأسد في سوق الصرف الأجنبي البالغ قيمتها 7.5 تريليون دولار يومياً.
وقد علقت الصين آمالها على النسخة الرقمية من اليوان، التي حققت تجربة إطلاقها الأولية في 2022 نجاحاً ملحوظاً، ما كان ينبغي أن يسترعي انتباه بنك الاحتياطي الفيدرالي، وفقاً لرأي زميلي آندي موخيرجي من “بلومبرغ أوبينيون”، الذي يرى أيضاً أن مشروع “إم بريدج” قد يشكل نقطة توتر محتملة.
محاولات حثيثة لتقليص هيمنة الدولار
سواء نجح مشروع “إم بريدج” أم لا، سيواصل بوتين محاولاته. وكذلك الصين، وإن كان بأسلوب أقل استفزازاً، بالنظر إلى اندماج اقتصادها العميق في الأسواق العالمية مقارنة بروسيا. وتدير بكين اليوان مقابل مجموعة عملات تشمل الدولار كعنصر جوهري. بينما يميل بوتين إلى الضغط على الدولار، لكنه غالباً ما يتراجع معترفاً بصعوبة الإطاحة به.
أما مجموعة “بريكس”، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا كأعضاء أصليين، فتتحدث باستمرار عن تقليص هيمنة العملة الأميركية، لكنها تصطدم بالواقع. فإلى جانب مزايا الدولار الثابتة، لا تملك الدول الأخرى دوافع كافية للتحايل عليه كما يفعل بوتين، وكان هذا من الدروس المستخلصة من قمة “بريكس” الأخيرة في كازان بروسيا.
حلم النظام المالي العالمي
في كتاب “ثمن السلام: المال والديمقراطية وحياة جون ماينارد كينز”، يوضح كارتر أن كينز تخيل إنشاء “الاتحاد الدولي للمقاصة” (International Clearing Union)، حيث يفتح كل بنك مركزي مشارك حساباً. وكان لهذا الاتحاد القدرة على إصدار عملة عالمية جديدة عند الحاجة، وفرض عقوبات أو منح مكافآت للدول التي تواجه فائضاً أو عجزاً تجارياً مستمراً.
ومع ذلك، اضطر كينز إلى قبول نظام قائم على هيمنة الدولار، مع وجود مؤسسة إنقاذ تعتمد بشكل كبير على التمويل الأميركي. وعلق كارتر قائلاً: “انتهت الشراكة، ومعها زمن بريطانيا كقوة عظمى”.
أمضى الوفد الأميركي في بريتون وودز وقتاً طويلاً في محاولة لإقناع الاتحاد السوفييتي، لكن جوزيف ستالين رفض المشاركة. أما روسيا، في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي، فقد احتاجت إلى مساعدات كبيرة من صندوق النقد الدولي خلال التسعينيات. ولعل كينز، الذي تزوج من راقصة باليه روسية، كان سيقدر هذه المفارقة.
فهل يتفضل المنافس التالي للدولار بالتقدم للأمام؟
المصدر: صحيفة اقتصاد الشرق