لا بد أن شاشة التلفاز التي احتضنتها أوشا كادراي منذ استقلت الحافلة لتسافر 1200 كيلومتر لم تجلب لها الراحة طوال الطريق، لكن نتيجة ذلك تجلت حين بلغت وجهتها. لقد لاقت الشاشة الكبيرة التي كان قطرها 32 إنشاً استحسان عائلتها، وتباهى بها زوجها أمام الجيران مثيراً غيرتهم، أما ابنتها أُوما، 11 عاماً، فقبعت لساعات قبالة الشاشة تشاهد مقاطع “تيك توك” بعد المدرسة.
بالنسبة لكاداري، جسّد هذا التلفاز نجاحاً حققته بعد كل الجهد الذي بذلته، فقد جمعت ثمنه من عملها في الخدمة المنزلية، إذ كانت تطهو وتنظف لدى عائلة ثرية في الهند المجاورة.
إن فرص العمل شحيحة في القرى الريفية مثل لالبيتي، لذا تعتمد كثير من الأسر على التحويلات المالية من أبنائها العاملين في الخارج، حيث تسهم تحويلات المغتربين بنحو ربع اقتصاد نيبال.
حظر حكومي
يكاد يكون العائق الأكبر الذي يواجه عمل النسوة من صنع حكومة نيبال، لأنها تحظر سفرهن إلى الخارج للعمل في الخدمة المنزلية، وهو العمل الوحيد المتاح للعمالة غير الماهرة مثل كاداري.
بدأ تطبيق الحظر في عام 1998 على خلفية حادثة وفاة في قطر، وطبقت الحكومة بعدها أشكالاً متعددة لهذا الحظر، معللة ذلك بحماية النساء من الاستغلال والاتجار بالبشر. (يُستثنى من هذا الحظر الأردن، نظراً لاتفاقية العمل المبرمة بينه وبين نيبال).
إلا أن منتقدي هذه القيود يعتبرون أنها تنتهك دستور نيبال الذي يكفل حق العمل والمساواة لجميع المواطنين. كما يرون أن الحظر يأتي بنتائج عكسية، بما أنه يدفع النساء للاعتماد على مهربين مشبوهين، ويحرمهن من القدرة على طلب المساعدة من سفاراتهن في الخارج في حال تعرضن للاستغلال. ووفقاً لسونيتا مينالي، المديرة التنفيذية لمركز إعادة تأهيل النساء، وهي منظمة غير ربحية، “تلجأ النساء إلى طرق أخرى، كما أنهن معرضات لمخاطر أكبر بسبب الحظر”.
برأي غورو داتا سوبيدي، مدير دائرة التوظيف الخارجي في نيبال، يهدف الدستور إلى “العدالة لا المساواة”، ما يجعل سنّ قوانين خاصة لحماية النساء ضرورياً. مع ذلك، أقرّ أنه على الرغم من فرض هذا الحظر منذ أكثر من عقدين، أخفقت الرقابة على الحدود وفي المطارات في منع هجرة النساء، مشيراً إلى أن الأرقام الحكومية تفيد بأن نحو 20000 إلى 30000 امرأة ينجحن بالالتفاف على هذا الحظر سنوياً.
يصعب أيضاً تقدير مساهمة النساء العاملات في الخارج في اقتصاد نيبال البالغ حجمه 43.7 مليار دولار، بما أنهن غالباً ما يلجأن إلى تحويل الأموال عبر قنوات غير رسمية. مع ذلك، تظهر الدراسات أن النساء يرسلن بشكل عام نسبة أكبر من مدخولهن مقارنة بالرجال. وفي أغلب الأحوال تؤول هذه الأموال للعناية بأطفالهن؛ فأجر كاداري البالغ 15 ألف روبيه هندية شهرياً (179 دولاراً) ساعد على دفع قسط ابنتها المدرسي.
قيود المجتمع الذكوري
تصطدم التطلعات الاقتصادية للنيباليات بنظام اجتماعي ذكوري مترسخ. بما أن الهجرة بغرض العمل كثيراً ما تُربط بالاتجار بالبشر، غالباً ما يُنظر إلى العاملات المهاجرات بأنهن “فاقدات للعفة والشرف”، حسب مانجو غورونغ، الشريكة المؤسسة لمنظمة “بوراخي نيبال” (Pourakhi Nepal) المكرسة لدعم العاملات المهاجرات. قالت: “في نيبال يجب أن تكون المرأة عفيفةً”.
كان زوج كاداري قد حذرها من التحدث مع الرجال الغرباء في دلهي، خشية أن تتعرض “للبيع”. وتقول جارتها ميرا سيغدهيل إن لدى سكان لالبيتي بشكل عام “أفكار سيئة” عن النساء المهاجرات. وكشفت أن زوجها كان يخاف من أن تقيم علاقة عاطفية خلال إقامتها في الخارج، لدرجة أنه حبسها في المنزل ومنعها من الخروج، خشية أن تسافر.
النساء اللواتي يعبرن الحدود إلى الهند يخضعن لتدقيق صارم، خاصةً الشابات اللواتي يسافرن بمفردهن. شيواني، التي بلغت من العمر 24 عاماً ونشأت في لالبيتي وهاجرت إلى دلهي العام الماضي للعمل، أوقفتها الشرطة، لكنها كذبت وأخبرتهم أنها ذاهبة لزيارة والدتها. (لم تنشر بلومبرغ بيزنسويك اسم عائلتها حفاظاً على خصوصيتها).
كان الحظّ حليفها، إذ تتعاون الشرطة عادة مع منظمات غير حكومية ناشطة في مجال مكافحة الاتجار بالبشر، مثل “مايتي نيبال” (Maiti Nepal) من أجل التحقق من الأجوبة المثيرة للشكوك، فتتصل المنظمة بأفراد أسر أولئك النسوة للتأكد إذا ما حصلن على إذن للهجرة. ثم تحتجز اللواتي يتبين أنهن لم يحصلن على إذن في ملاجئ مخصصة لضحايا الاتجار بالبشر، حتى لو أصررن أنهن اتخذن قرار الهجرة بمحض إرادتهن.
ويقرّ بيشوو خادكا، مدير “مايتي نيبال”، بأن النساء البالغات “لديهن الحق في الاختيار”، لكنه يشير إلى أن التوقعات الثقافية المتعلقة بدور المرأة في الأسرة تضغط على المنظمة من أجل اتخاذ إجراءات معينة. قال: “حتى لو كانت في الثلاثين من عمرها، إذا طلب الوالد عدم تركها وقال إنه قادم لأخذها، فعلينا أن نحتجزها حتى وصول أحد أفراد أسرتها”. وأشار خادكا إلى أن منظمته احتجزت أكثر من 2700 امرأة في 2023، وإلى أن عديدهن يتزايد.
تجدد المعاناة بعد العودة
بالنسبة لكثير من النساء، الحاجة إلى العمل تتغلب على ما قد يواجهنه من عراقيل. زوج كاداري، التي بلغت من العمر 46 عاماً، أنفق أمواله على طاولات الميسر وزجاجات الخمر، وراكم ديوناً تصل إلى مليون روبيه نيبالية (7400 دولار)، ما عرّض العائلة لخطر فقدان المنزل الذي يأويها. قالت كاداري إنها تنفست الصعداء في دلهي، بعيداً عن زوجها الذي غالباً ما كان يعنّفها لفظياً وجسدياً حين يثمل.
وبعيداً عن العادات الاجتماعية القمعية في القرية، بدأت كاداري تكتسب مزيداً من الثقة بالنفس. وقالت عن تلقي أول أجر لها: “بدأت أؤمن بنفسي… فحين تكسب مالك الخاص، لا يمكن لأحد أن يملي عليك ما تفعل”.
لكن النساء اللواتي يتذوقن طعم الحرية في الخارج، يعدن ليجدن الأوضاع على حالها في قراهن. وبحسب بيانات الأمم المتحدة، تعود الكثيرات ليعانين من البطالة. وكانت دراسة أجرتها منظمة “أكماس” (AKMAS) غير الحكومية أظهرت أن النساء اللواتي يهربن من العنف الأسري، غالباً ما يقعن ضحيته مجدداً بعد عودتهن.
وقالت كاداري التي عادت بشكل دائم إلى نيبال في يناير لقضاء المزيد من الوقت مع ابنتها إنها مضطرة لإخفاء مدخراتها عن زوجها حتى لا ينفقها على القمار.
مع ذلك، تشعر أن ما حققته كان يستحق التضحيات. فنساء القرية يحسدنها على نجاحها ويلجأن إليها للحصول على النصيحة حول كيفية الهجرة. قالت حين تكبر ابنتها وتتخرج من المدرسة، ستدعمها إذا ما قررت السفر إلى الخارج للعمل أو الدراسة، مضيفة: “لدى الشابات أحلام كثيرة جداً”.
المصدر: صحيفة اقتصاد الشرق