محمد بن حمد البادي **
mohd.albadi1@moe.om
ظهرت الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر باختراع المحرك البخاري الذي حول حياة الإنسان من شكلها البدائي إلى شكلٍ أكثر تطورًا، وفي القرن التاسع عشر تلتها الثورة الصناعية الثانية باكتشاف الكهرباء والبترول، واختُرعت الآلات التي تعمل بالكهرباء لتصدح بأصواتٍ لم يألفها البشر من قبل، واستبدلت الفوانيس اليدوية بالمصابيح الكهربائية فنشرت الضياء في المدن والشوارع والساحات والميادين، وبالتالي تغيرت حياة الإنسان من نمطها التقليدي إلى نمطٍ أكثر حداثة.
ومهَّدت الثورة الصناعية الثانية للعالم تطوير نفسه بنفسه؛ فظهرت بداية من منتصف القرن العشرين أجهزة الحاسوب والبرمجة والإنترنت التي غيرت من شكل العالم مرة أخرى؛ وهذه هي الثورة الصناعية الثالثة، ولك أن تتخيل كيف كان شكل العالم بين كل ثورة صناعية والأخرى، لقد حدثت تطورات خيالية، ونقلات نوعية في شتى مجالات الحياة لم تخطر ببال أكثر الناس تفاؤلًا ممن كانوا يعيشون قبل عام 1700م، ولم يكن ليدركها أي عقل بشري كان يعيش قبل 300 عام من الآن.
ونحن في سلطنة عُمان؛ ولأننا حريصون على مسايرة الركب العالمي كسائر بلدان هذا العالم؛ نعيش اليوم في منتصف الثورة الصناعية الرابعة، نتوغل يومًا بعد يومٍ في دائرة التحول الرقمي دون أن نشعر، لنجد أنفسنا غارقين حتى النخاع في بحر التكنولوجيا بكل ما تحويه من تقنيات رقمية حديثة، وإنترنت، وتقنية معلومات وذكاء صناعي، وتحولات رقمية متسارعة في جميع القطاعات، بعضًا منها ربما ندركه أو ندرك جزءًا يسيرًا منه، وبعضًا منها إن كنا محظوظين سندرك آثاره بعد حينٍ من الزمن.
إن زمن الانفجار المعرفي الذي أصبح فيه العلم يسوقنا سوقًا من طفرة إلى أخرى كقائد ملهم للعالم أجمع؛ يفرض علينا ـ هنا في السلطنة ـ التوجه نحو التحول الرقمي في قطاع التعليم، كونه أصبح من الضروريات الحتمية لمواكبة التطور العالمي السريع ولتحسين جودة التعليم؛ وتحقيق أهدافه بما يتوافق مع رؤية “عُمان 2040”.
ومما لا شك فيه؛ عندما نتحدث عن التحول الرقمي في قطاع التعليم فإن ذلك نابع من إدراكنا التام لأهميته باعتباره من الوسائل المهمة في سبيل تطوير المنظومة التعليمية، فالتحول الرقمي يساعد على إعادة تشكيل النماذج التعليمية التقليدية، بحيث يتيح لخبراء التعليم استخدام التقنيات الحديثة في تصميم المناهج التعليمية المتطورة بما يتناسب مع احتياجات الطلبة الفردية، مما يُعزز بيئة تعليمية أكثر جاذبية وجدوى. كما إن التقنيات الحديثة بإمكانها أن توفر أدوات تقييم دقيقة ومتطورة للعملية التعليمية ككل؛ تساعد المعلمين على تحليل أداء الطلبة وفهم تحصيلهم الدراسي أو الأكاديمي بشكل أفضل، مما يمكّن القائمين على التعليم من تطوير استراتيجيات تدريس وأساليب تعليم قائمة على تغليب الجانب التطبيقي على الجانب التلقيني أو النظري، بما يضمن تقليص الفجوة بين المؤسسات التعليمية وبين سوق العمل المحلي والعالمي.
وأيضًا تطوير أدوات التقويم لتكون أكثر فاعلية، وكذلك تصميم وابتكار برامج أو وسائط إلكترونية متقنة تستخدم كوسائل موائمة لأنماط التعلم السمعي والبصري والحركي كلٌ على حده.
أضف إلى ذلك أن التحول الرقمي يساهم في تحقيق مبدأ التكافؤ في فرص التعليم، من خلال تحطيم حواجز الزمان والمكان؛ فيمكن للطلبة الاستفادة من مصادر التعلم الرقمية باختلاف أنواعها؛ بغض النظر عن موقعهم الجغرافي، أو الوقت الذي يناسبهم لتلقي التعليم، كل ما يحتاجه الطالب في هذا الأمر جهاز ذكي متصلًا بالإنترنت.
لقد قطعت أغلب بلدان العالم شوطًا كبيرًا في مجال التحول الرقمي في التعليم، ولكي لا نجد أنفسنا قابعين في ذيل القائمة؛ ولكي لا نجد أن قطاع التعليم آخر القطاعات التي طبقت التحول الرقمي؛ علينا التوجه الكلي- بأقصى ما يمكن من سرعة- نحو تبني سياسات وطنية وبرامج واستراتيجيات ضامنة لنجاح هذا التحول الرقمي.
ولكي يكون التحول الرقمي عاملًا أساسيًا في تحسين المنظومة التعليمية؛ لا بد أن تكون جهودنا موجهة نحو استخدام التقنيات الحديثة في جميع مؤسساتنا التعليمية باختلاف مسمياتها ومستوياتها واختصاصاتها، وابتكار وسائل تعليمية توفر بيئات تعليمية متطورة ومبتكرة.
هذه الجهود لا بُد أن تتضمن تعزيز فرص المتعلمين في تطوير مهاراتهم التي تشمل التفكير النقدي والتحليلي والابداعي، وتمكينهم من التعلم بأساليب مبتكرة تنمي فيهم الرغبة الصادقة نحو التوجه للتعلم الذاتي والتعلم مدى الحياة، حيث البحث عن المعلومة وتنمية الذات بما يتناسب مع المتغيرات المتسارعة التي تطرأ على الساحة العالمية بوتيرة غير مسبوقة.
والتحول الرقمي في التعليم يجب أن يهتم بتوجيه الهيئات التعليمية والطلبة في المدارس والجامعات نحو توظيف الأجهزة الذكية ووسائل التقنية في التعليم، على أن يواكب هذا التوجيه وضع برامج تدريبية كفيلة بصقل مهاراتهم للتعامل باحترافية عالية مع التطبيقات التعليمية، والمحتوى الرقمي التفاعلي، وتقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز.
ومن الضرورات الملحّة التي يجب أن يشملها التحول الرقمي في مجال التعليم- من أجل التقليل من الفاقد التعليمي- ذلك الجانب المتعلق بتهيئة المعلمين والطلبة والمجتمع ككل لتطبيق التعلم عن بعد في أي وقت، تحسبًا لأي ظرف طارئ يمنعهم من الوصول إلى المؤسسة التعليمية.
وفي الختام.. لا بُد من الإشارة إلى أن دمج التقنيات الحديثة في التجربة التعليمية لم يعد ترفًا كالسابق، بل أصبح أمرًا لا غنى عنه لمجتمعات تنشد تخريج أجيالًا مسايرة لركب التطور، ومزودة بالمهارات والقدرات التي تلائم متطلبات العصر، وممكّنة لقيادة مسيرة البناء والتعمير، كما نؤكد أن ثقتنا تامَّة بالقائمين على السياسات التعليمية في السلطنة؛ وأنهم ماضون قدمًا في تطوير المنظومة التعليمية؛ وهم مدركون تمامًا أن التطبيق الصحيح والمتكامل للتقنيات الحديثة في قطاع التعليم يُعلي من شأن جودة التعليم في السلطنة، كما أنه يساعد على تمكين الطلبة من تحقيق أقصى فائدة من تجاربهم التعليمية، مما يمهد الطريق نحو مستقبل تعليمي ومهني أكثر ابتكارًا وتطورًا.
** أخصائي توجيه مهني
المصدر: جريدة الرؤية العمانية