تتشكل صورة الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في 5 نوفمبر بحيث يمكن وصفها “أم المخاطر”، وقد تظن لذلك أن الملاذ الأكثر أماناً بين جميع الملاذات الأخرى سيحافظ على تماسكه. لكن الحقيقة غير ذلك، وهذه ليست سوى واحدة من الحالات الشاذة الملحوظة التي تظهر في الأسواق المالية.
ارتفعت العوائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات بما يقرب من 70 نقطة أساس منذ أول تخفيض قوي لأسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية أجراه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في 17 سبتمبر.
ما هو أشد غرابة من ذلك أن السندات السيادية الأميركية تترنح دون أن تسير في ركابها الأدوات المالية التي ترتبط عادةً بها، باستثناء سندات الحكومة البريطانية بسبب مخاوف مالية مماثلة.
ارتفع الدولار الأميركي بنسبة 4% خلال الشهر الماضي، لذا فمن الواضح أن الأموال الأجنبية لا تهرب من الأصول الأميركية، وإنما فقط لا تستثمر في سندات الخزانة التي تُعتبر عادةً ملاذاً آمناً.
أين تذهب الاستثمارات؟
إلى أين تذهب هذه الدولارات إذن؟ بعضها لا يزال يتوجه نحو أكثر الاستثمارات إثارة في البلاد، أي أسهم التكنولوجيا الأميركية. ولكن هذا الأمر ليس واضحاً وضوحاً تاماً كما يبدو، إذا استخدمنا الطريقة التقليدية لتقييم الأسهم، التي تستخدم عوائد سندات الخزانة الأميركية كمعدل خصم للتدفقات النقدية المستقبلية للشركات. وتحدد هذه العلاقة علاوة مخاطر الأسهم بالمقارنة مع سعر الفائدة الخالي من المخاطر على أوراق الدخل الثابت.
عندما كانت أسعار الفائدة قريبة من الصفر، كان هذا هو التفسير الملائم للارتفاع غير العادي في أسعار أسهم الشركات السبع الكبرى أو “العظماء السبعة”. ومع ذلك، فإن الطريقة القديمة تجعل قيم الأسهم تبدو أعلى بشكل مبالغ فيه مقارنة مع السندات، لذا إما أن ترمي هذه النظرية من النافذة، أو أن تستعد لتحرك عكسي يصيبك بالغثيان.
كذلك تمتد هذه المقارنة في التقييم إلى ديون الأسواق الناشئة، والتي ظلت متماسكة وصامدة على الرغم من المؤثرات السلبية المتمثلة في المغالاة في ارتفاع قيمة الدولار، وإعادة تسعير منحنى العائد على سندات الخزانة الأميركية. وعند نقطة معينة، سيحدث اختلال ما، وليس فقط في الولايات المتحدة.
تحولات الين الياباني
تُعتبر العودة إلى بيع الين الياباني من جديد مصدراً من مصادر القلق بعد الانتخابات التي جرت يوم الأحد الماضي وشهدت خسارة الائتلاف الحاكم لأغلبيته البرلمانية. ويشكل تدخل الحكومة مرة أخرى لدعم العملة خطراً حقيقياً.
أدى تحول الين الياباني المفاجئ من الهبوط إلى الارتفاع في أوائل أغسطس إلى زعزعة استقرار الأسواق العالمية، وتسبب في تراجع جماعي للمضاربة الشائعة على فروق أسعار الفائدة، من خلال الاقتراض بالين بسعر فائدة منخفض من أجل تمويل شراء الأصول عالية المخاطر بعملات أخرى مثل الدولار.
ومع ذلك، فإن الانفصام الأشد إثارة للارتباك هو ما يحدث في سوق أوراق الدخل الثابت في الولايات المتحدة، وسط تراجع فروق العائد على ديون الشركات، على الرغم من الخروج الجماعي من الديون السيادية المعيارية.
تراجعت فروق أسعار الفائدة على الديون مرتفعة العائد بمقدار 150 نقطة أساس في العام الماضي، واقترب هذا الانخفاض من مستوى قياسي جديد. وأصبحت أسواق الديون في حالة صحية قوية، مع صفقات السندات الجديدة هذا العام التي تضاهي أحجام وتنوع جودة الائتمان كما كانت في سنوات الجائحة.
المشكلة في واشنطن
لا بد أن واشنطن هي المشكلة هنا، مع استقرار الكثير من الأمور في منطقة “جيدة ومعتدلة”. فالاقتصاد يسير بوتيرة جيدة بشكل عام، لكن الأهم من ذلك أنه ليس ساخناً للغاية. ويشير ضعف بيانات الإسكان وطلبات السلع المعمرة لشهر سبتمبر، إلى جانب المسح الإقليمي في “الكتاب البيج” الذي يصدره الاحتياطي الفيدرالي، إلى تباطؤ قطاعات كبيرة من الاقتصاد بمعدلات سريعة.
وأظهر استطلاع “بنك أوف أميركا” لمديري الصناديق لشهر أكتوبر أن 76% من المشاركين في الاستطلاع لا يزالون يتطلعون إلى هبوط سلس للاقتصاد. وأوضح بنك الاحتياطي الفيدرالي مراراً أنه يرى أن السياسة النقدية تقشفية أكثر مما ينبغي. وعلى الرغم من أن تخفيضات أسعار الفائدة ستحدث بوتيرة بطيئة، فإن اتجاه حركتها واضح تماماً.
ليس ذلك خوفًا مدفوعاً بالتضخم، حيث أن مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي المفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي قريب من هدفه البالغ 2%.
أسعار النفط وسوق السندات
من الطبيعي أن يساعد استمرار انخفاض أسعار النفط الخام سوق السندات. فقد واكبت العوائد على سندات الخزانة المحمية من التضخم حوالي نصف الزيادة التي سجلتها نظيراتها الاسمية، ولكنها الآن تدر عائداً نسبته 2% بعد خصم التضخم، بما يقترب من أكثر العوائد سخاءً منذ الأزمة المالية العالمية.
ما يلفت الانتباه في الشهر الماضي هو ارتفاع تكلفة شراء خيارات الحماية من الهبوط، إلى جانب الضغط في أسواق إعادة الشراء. ولا يشير ذلك إلى زيادة في تحوط المحفظة فحسب، بل يشير أيضاً إلى زيادة مراكز البيع المطروحة.
ارتفعت تقلبات سوق السندات إلى أعلى مستوياتها منذ أواخر العام الماضي، ولكن تلك التقلبات قد تنحسر بشكل حاد بعد 5 نوفمبر.
إن الخوف من المجهول شيء سريع الزوال، حتى لو لم يتغير الكثير في وضع الاقتصاد الحقيقي. وقدرة أي إدارة قادمة على البذخ وزيادة الإنفاق من الميزانية ستكون محدودة للغاية، ليس فقط من الناحية التشريعية، ولكن من خلال شهية سوق السندات. وإذا لم يكن بالإمكان تمويل شيء ما، فستكون الصدمة كبيرة. وبمجرد زوال الخطر المتعلق بالانتخابات، فإن مرونة علاقة التقييم الأساسي للسندات المعيارية للسوق العالمية بفئات الأصول الأخرى قد تعود بسرعة إلى سابق عهدها.
باختصار
تشهد الأسواق المالية حالة من الاضطراب قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في 5 نوفمبر، حيث ارتفعت عوائد سندات الخزانة الأميركية بشكل غير متوقع. رغم ارتفاع الدولار، لا تتجه الاستثمارات إلى السندات الأميركية، التي كانت عادةً ملاذاً آمناً، بل تتجه جزئياً نحو أسهم التكنولوجيا، مما يعكس انحرافاً عن التوقعات التقليدية في تقييم الأسهم.
التغيرات لا تقتصر على السوق الأميركية؛ إذ يشهد الين الياباني تقلبات بعد نتائج الانتخابات البرلمانية في اليابان، ما يضيف قلقاً من تدخل حكومي لدعمه. كما أن سوق ديون الشركات في الولايات المتحدة يظل مستقراً رغم الخروج الجماعي من السندات الحكومية.
تشير بيانات الاقتصاد الأميركي إلى تباطؤ ملحوظ، إلا أن الاحتياطي الفيدرالي يتجه ببطء نحو خفض أسعار الفائدة، في وقت لا تشكل فيه الضغوط التضخمية تحدياً كبيراً. ومع انتهاء الانتخابات، من المحتمل أن تتراجع التقلبات وتعود الأسواق إلى استقرار نسبي، ولكن بحدود ضيقة بسبب القيود التمويلية.
المصدر: صحيفة اقتصاد الشرق