رسائل من زمن الفراعنة.. لحظة قلبت ميزان الشرق القديم

رسائل من زمن الفراعنة.. لحظة قلبت ميزان الشرق القديم

في لحظة فارقة من تاريخ الشرق الأدنى القديم، وبعد سنوات طويلة من النزاعات الدامية والصراع على النفوذ في منطقة الشام، شهد العالم القديم في عام 1259 قبل الميلاد توقيع واحدة من أهم الوثائق الدبلوماسية عبر العصور، وهي معاهدة السلام المصرية الحيثية بين فرعون مصر رمسيس الثاني وملك الحيثيين حاتّوسيلي الثالث. 
فيما تعد هذه المعاهدة، وفق ما ورد في حساب المؤرخ باكرات أقدم معاهدة سلام مكتوبة عرفها التاريخ الإنساني.

صراع طويل ودماء لا تهدأ

بدأت القصة حينما شهدت العقود السابقة للمعاهدة صراعًا محتدمًا بين القوتين العظميين في ذلك العصر، الإمبراطورية المصرية الحديثة بقيادة رمسيس الثاني، والإمبراطورية الحيثية التي سيطرت على الأناضول وشمال الشام.
وكانت معركة قادش الشهيرة، التي وقعت قرابة عام 1274 ق.م. ذروة هذا الصراع، حيث التقى الجيشان على ضفاف نهر العاصي في معركة تعد من أكبر المعارك الحربية التي جرت باستخدام العربات الحربية.

ورغم إعلان كل طرف انتصاره في سجلاته، فإن الحقيقة التاريخية تشير إلى أن المعركة انتهت دون حسم، مع خسائر بشرية ومادية ضخمة للطرفين، وبقاء النزاع الحدودي مفتوحًا لسنوات تالية.

الطريق إلى السلام

مع استمرار التوتر بين القوتين، أدرك كل من رمسيس الثاني وحاتّوسيلي الثالث أن استمرار الحرب لن يجلب سوى مزيد من الاستنزاف.

كما واجه الحيثيون تهديدات داخلية وصراعات على العرش، في حين كانت مصر تسعى لتأمين تجارتها ونفوذها في الشام؛ كل هذه العوامل دفعت الطرفين إلى البحث عن صيغة سلام تضمن الاستقرار وتحمي مصالحهما الإقليمية.

بنود المعاهدة وبناء الثقة

وكانت نصّت معاهدة السلام المصرية الحيثية، التي كُتبت بنسختين مصرية باللغة الهيروغليفية، وحيثية بالخط المسماري، على مجموعة من البنود التي تناولت تفاصيل المعاهدة والتي شملت وقف الأعمال العدائية بين الدولتين وإقرار السلام الدائم.

وكذا التحالف الدفاعي المشترك في حالة تعرض أي طرف لهجوم خارجي، وإعادة الفارين واللاجئين من كلا الجانبين وفق آليات واضحة، كما شملت المعاهدة تأكيد الحدود السياسية واحترام سيادة كل دولة.

وكذا إرساء أسس التعايش الدبلوماسي وتبادل الرسائل والهدايا.

وتُعد هذه البنود في مجموعها نموذجًا متقدمًا لوثائق العلاقات الدولية الحديثة، وتعكس فهمًا سياسيًا ناضجًا لطبيعة الصراع ومصالح الطرفين.

زواج ملكي يعزز التحالف

لم يكتفِ رمسيس الثاني بتوقيع المعاهدة فحسب، بل أقدم بعد سنوات على خطوة دبلوماسية رمزية مهمة حين تزوج من أميرة حيثية تُعرف باسم “ماعت نفرو رع”، ما عزز التحالف بين القوتين وخلق روابط اجتماعية وسياسية إضافية.

وثيقة خالدة في عصرنا

اليوم تُعرض نسخة طبق الأصل من المعاهدة في مقر منظمة الأمم المتحدة، باعتبارها أول وثيقة سلام مكتوبة في التاريخ، ورمزًا مبكرًا لفكرة حل النزاعات عبر الحوار لا السيف.

ويعتبر المؤرخون هذه اللحظة نقطة تحول في تاريخ الدبلوماسية، وسابقة تؤكد أن الشعوب – مهما اشتد صراعها – قادرة على الوصول إلى سلام قائم على المصالح المشتركة.

هكذا سجّل عام 1259 ق.م. بداية مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة، حين طوى رمسيس الثاني وحاتّوسيلي الثالث صفحة صراع دام عقودًا، وفتحا بابًا للسلام كان أثره ممتدًا لسنوات طويلة. وتبقى هذه المعاهدة شاهدًا خالدًا على أن السلام في جوهره قرارٌ سياسيّ شجاع، لا يقل أهمية عن قرار الحرب.

نقلاً عن : الجمهور الاخباري

مها أحمد، كاتبة متميزة في قسم المنوعات، تمتلك موهبة في تقديم محتوى متنوع وجذاب يلامس اهتمامات القراء في مختلف المجالات. من خلال أسلوبها السلس والإبداعي، تغطي مها مواضيع شاملة تتراوح بين الثقافة والفن، الصحة، السفر، ونمط الحياة. تسعى مها إلى تقديم مقالات ممتعة ومفيدة تضيف قيمة إلى تجربة القارئ اليومية، وتعكس شغفها بنقل الأفكار الجديدة والنصائح العملية التي تهم كل أفراد الأسرة.