هل يمكن الوثوق في توقعات ركود الاقتصاد الأميركي؟

هل يمكن الوثوق في توقعات ركود الاقتصاد الأميركي؟

عاد مصطلح “الركود” بقوة إلى عناوين الأخبار ورسائل التواصل الاجتماعي في شهر أغسطس الجاري، وكان جان هاتزيوس، كبير الاقتصاديين في مجموعة “غولدمان ساكس غروب”، من بين أولئك الذين رفعوا توقعاتهم لاحتمال حدوث ركود، مما أثار ضجة إعلامية كبيرة. ومع ذلك، لم ترتفع مخاطر الركود في تقييم “غولدمان” بصورة ملحوظة عن المستوى العادي، بل تنحسر تلك المخاطر الآن مرة أخرى.

في أحدث مذكرة لهم خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضية، كتب هاتزيوس وفريقه: “رفعنا احتمال ركود الاقتصاد الأميركي خلال 12 شهراً إلى 25% بدلاً من 15%، بعد صدور تقرير الوظائف لشهر يوليو في 2 أغسطس، (استناداً إلى قاعدة سهم). والآن قمنا بتخفيض هذا الاحتمال مرة أخرى إلى 20% لأن البيانات المنشورة منذ 2 أغسطس لا تظهر أي علامات على الركود، بما في ذلك بيانات مبيعات التجزئة وطلبات إعانة البطالة للأسبوع الحالي.”

كان هاتزيوس يشير بالطبع إلى الظاهرة الإمبريقية المنتظمة التي اكتشفتها زميلتي في “بلومبرغ أوبينيون” كلوديا سهم، والتي توضح أن اقتصاد الولايات المتحدة يكون عادة في ركود عندما يرتفع المتوسط المتحرك للبطالة لمدة 3 أشهر بمقدار نصف نقطة مئوية عن أدنى مستوى له خلال الاثني عشر شهراً السابقة، كما حدث في تقرير سوق العمل لشهر يوليو الذي صدر في 2 أغسطس.

ولكن، مثل جميع قواعد الركود الاقتصادي الأخرى القائمة على التجربة والتي لم تقصد الدقة العلمية، هناك دائماً احتمال معتبر بأن تواجه “قاعدة سهم” تحديات أو تناقضات في ظل الوضع الاقتصادي الاستثنائي الذي شهده العالم خلال فترة الجائحة وما بعدها من 2020 وحتى 2024.

تأثير أرقام إعانة البطالة ومبيعات التجزئة 

هدأت الأعصاب المضطربة بعد نشر تقارير لاحقة في أغسطس حول طلبات إعانة البطالة ومبيعات التجزئة. فقد انخفضت الطلبات الأولية للحصول على إعانة البطالة في الولايات المتحدة للأسبوع الثاني على التوالي، وأظهر تقرير منفصل ارتفاع مبيعات التجزئة في يوليو بأعلى نسبة منذ يناير 2023.

أرقام مجموعة “غولدمان ساكس” تبدو منخفضة مقارنة بمتوسط التوقعات في مسح أجرته “بلومبرغ”، حيث قدر المشاركون احتمال الركود الاقتصادي خلال السنة المقبلة بنحو 30%. قد تبدو هذه النسبة مرتفعة، ولكن عندما نضع في اعتبارنا أنها بالكاد تتجاوز متوسط احتمال الركود البالغ 27% منذ عام 2008 (أو 24% في التقديرات التي لم يشهد الاقتصاد ركوداً بعدها)، يتضح أن هذه التوقعات ليست بعيدة عن المعتاد.

أظهر متوسط المشاركين في استطلاع آخر أجراه بنك الاحتياطي الفيدرالي في فيلادلفيا احتمالات ضئيلة نسبياً لحدوث انكماش اقتصادي في عام 2024، ولكنه يتوقع احتمالاً بنسبة 25% تقريباً بأن يشهد الاقتصاد انكماشاً في الربع الأول من عام 2025. (وقد خرجت نتائج هذا الاستطلاع في 6 أغسطس أو قبله، مما يعني أنها لا تأخذ في الاعتبار سلسلة التطورات الإيجابية الأخيرة).

ومع ذلك، هناك دائماً بعض المخاطر التي لا يمكن تجاهلها بأن يتعرض الاقتصاد الأميركي لأزمة نتيجة صدمات غير متوقعة. ويعتقد الكثيرون أن هذا الخطر الأساسي يبلغ حوالي 15%، وهو ما يتوافق مع المتوسط التاريخي لفترات الركود بعد الحرب العالمية الثانية. وأياً كان الاستطلاع الذي تعتمد عليه، يبقى هذا السيناريو ضمن النطاق الطبيعي لتقلبات الاقتصاد.

كيف تجذب الانتباه؟ اتبع قاعدة 40%

كما أوضح داريو بيركنز من شركة “تي إس لومبارد” (TS Lombard) هذا الأسبوع، هناك درجة من الدقة الزائفة في تقديرات احتمال الركود، حيث تعتمد بعض التوقعات على رهانات السوق المتقلبة بطبيعتها والمعرضة للخطأ.

كتب بيركنز في عام 2020 في منشور له، الذي جاء طريفاً ولكنه دقيق، تحت عنوان “قواعد أن تكون خبيراً اقتصادياً في جانب البيع”، أن هناك خطراً إضافياً يتمثل في أن دوافع من يتنبأون بأداء الاقتصاد قد تكون مرتبطة أكثر بالسعي للشهرة أو الترقي الوظيفي، حيث يميلون إلى توقعات تجعلهم يبدون مثيرين للاهتمام بما يكفي مع الحفاظ على فرصة معقولة للتنصل من الخطأ إذا لم تتحقق توقعاتهم. وفيما يلي مقتطف رئيسي من منشوره قبل أربع سنوات:

“كيف تجذب الانتباه: إذا كنت ترغب في أن تصبح مشهوراً من خلال توقعات كبيرة غير متوافقة مع الإجماع، دون مخاطر الظهور بمظهر الأحمق، فعليك أن تتبنى ‘قاعدة 40%’. يمكنك التنبؤ بأي شيء تريده بوضع احتمال 40%. على سبيل المثال، خروج اليونان من منطقة اليورو؟ ربما! قيام دونالد ترمب بإقالة جيروم باول وتعيين ابنته كرئيس جديد لمجلس الاحتياطي الفيدرالي؟ لا تستبعد ذلك! إن ترجيح احتمال بنسبة 40% يتجاوز ما يقوله أي شخص آخر، ولهذا السبب يحتاج عملاؤك إلى الاستماع إلى تحذيرك، ولكن أيضاً يجب ألا يفاجأوا كثيراً إذا لم يحدث ذلك الحدث المتطرف فعلاً.”

الاقتصاديون ليسوا عرافين 

أشعر بخيبة أمل أقل بقليل مما يشعر بيركنز. بالتأكيد، ينبغي أن يصاحب إعلان احتمالات الركود تحذيرات واضحة تنبه إلى أن هذه التقديرات نادراً ما تكون دقيقة بدرجة كبيرة في الماضي. ولكن، على عكس العرافين مثل كاساندرا، الاقتصاديون ليسوا قادرين على التنبؤ الدقيق بالمستقبل. التاريخ يظهر أنهم غالباً ما يكونون محافظين جداً في توقعاتهم، وهم عرضة لارتكاب ما يسمى بأخطاء النوع الأول في التنبؤ بالركود (الفشل في توقع الركود) أكثر من أخطاء النوع الثاني (توقع ركود لا يتحقق). هذا ما خلصت إليه ورقة بحثية لصندوق النقد الدولي في عام 2018 بعنوان “إلى أي مدى يتنبأ الاقتصاديون جيداً بالركود؟”، والتي استعرضت 63 اقتصاداً في الفترة من 1992 إلى 2014.

تُعد سنوات ما بعد الجائحة –التي شهدت توقعات متكررة بحدوث ركود في الولايات المتحدة– استثناءً ملحوظاً لهذه القاعدة. إن تقلب احتمالات الركود في هذه البيئة التي لا يمكن التنبؤ بها يعكس عدم وضوح الرؤية المتأصل في الاقتصادات المتضخمة. وهذا يشكل تحدياً للاقتصاديين، ولكنه يوفر أيضاً فرصاً للمشاركين في السوق الذين يستطيعون التعامل مع تقلب المعنويات، كما كان واضحاً خلال الشهر الحالي. لتحقيق ذلك، يجب أن يكون لدى هؤلاء تصور حول اتجاه احتمالات الركود، سواء صدقوا تلك الاحتمالات أم لا.

مع وضع ذلك في الاعتبار، سأظل متيقظاً عندما يثير الاقتصاديون ضجة حول مخاطر الركود على الاقتصاد الأميركي، لكنني لا أعتقد أننا بلغنا هذه النقطة حتى الآن.

يمكن للأشخاص العقلانيين أن يختلفوا حول الرقم الدقيق، لكن يبدو أن الاتجاه العام لا يزال مهماً. وهناك بعض الأخبار المشجعة في هذا الصدد؛ فقد انتقلنا من احتمال “منخفض جداً” إلى “مرتفع بدرجة ما”، ثم إلى “عفواً، ليس مرتفعاً إلى هذه الدرجة”. وبالنظر إلى حالة الشك والغموض الكبيرة التي تنطوي عليها توقعات الركود، يبدو أننا لا نزال على مسافة قريبة من المخاطر “العادية”.

المصدر: صحيفة اقتصاد الشرق

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *