مفارقة عجيبة.. الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يكبح رهانات هبوط اليوان الصيني

مفارقة عجيبة.. الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يكبح رهانات هبوط اليوان الصيني

تصدر التصريحات وتُتخذ القرارات في الولايات المتحدة الأميركية، لكنها تثير الحماس في آسيا رغم بعد المسافات، حيث بدأت فجأة عملاتها تستعيد مجدداً شعبيتها بعد أن عاشت أعواماً حافلة بالتحديات. 

تتجه بوصلة الأحداث في الأسواق العالمية بصورة كبيرة وفق ما يجري في الولايات المتحدة. في الوقت الراهن، ينبع هذا التأثير من خفض أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي. رغم تصوير الصين على أنها المحرك الرئيسي الاقتصادي لآسيا لمدة طويلة، فإن توقعاتها الاقتصادية آخذة في التراجع، حتى مع ارتفاع سعر عملتها مدفوعة بالتأثيرات الناتجة عن سياسات واشنطن. لكن ليس من الحكمة الشعور بالحماس المفرط إزاء الأفق المستقبلي لسوق العملات الأجنبية في آسيا دون فهم العوامل الأساسية وراء هذه الحالة الإيجابية الجديدة.

إمكانية أن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي يُعد أقوى بنك مركزي والمتحكم في الدولار الأميركي، جولة جديدة من التيسير النقدي دفعت الدولار للتراجع، مما عزز صعود العملات الأخرى. وقد حظي الين الياباني، باهتمام خاص، بعد أن تلقى دفعة إضافية من رفع غير متوقع في سعر الفائدة مؤخراً، وهو ما يبدو مبرراً بالنظر إلى الصعوبات التي واجهها سعر صرفه. كذلك شهدت عملات أخرى أداءً قوياً، ومنها البات التايلندي والروبية الإندونيسية. حتى الرينغيت الماليزي، الذي لا يتمتع بشعبية كبيرة وهو ما كان يصيب المسؤولين في كوالالمبور بخيبة الأمل. على نطاق أوسع، تسود نظرة إيجابية أكثر حيال الفرنك السويسري والجنيه الإسترليني. لكن ربما تكون القصة الأكثر أهمية هي تلك المتعلقة باليوان الصيني.

التحكم بسعر اليوان الصيني

شعرت بكين بارتياح كبير إزاء ما شهده سعر العملة الصينية من ارتفاعات لدرجة أن البنك المركزي أوقف العمل بتدابير دعم مهمة. عوّض اليوان الصيني جزءاً كبيراً من خسائره التي تكبدها السنة الجارية مقابل الدولار الأميركي، وعزز من قوة تحركه باتجاه مستوى 7 يوان مقابل الدولار الأميركي وهو مستوى مؤثر على معنويات السوق. 

يُعد هذا التحول في مسار اليوان كبيراً لدرجة أن السلطات التنظيمية لسوق العملات الأجنبية، التي كانت تبذل جهوداً مضنية لتحديد حد أدنى لقيمة اليوان، باتت الآن قلقة من احتمال ارتفاعه بشكل مفرط وبوتيرة سريعة. التدخل الرسمي في أسعار الصرف ليس ظاهرة جديدة أو مقصورة على الصين وحدها؛ فقد سبق أن تدخلت طوكيو مرات عديدة السنة الحالية لكبح تراجع سعر الين الياباني، وسعت لعقود عدة إلى احتواء المشكلة المعاكسة والمتمثلة في قوته المفرطة.

لكن الصين تدخلت بطريقة أدق استناداً إلى تفاصيل السوق. ورغم أن الحكومة الصينية ألغت ربط عملتها المحلية بسعر ثابت مقابل الدولار الأميركي في عام 2005، وسمحت تدريجياً بمرونة أكبر في التحركات اليومية، فإن بنك الشعب الصيني استمر في إحكام قبضته عليها.  حيث يحدد المسؤولون ما يُسمى بسعر التثبيت اليومي، وهو أداة رئيسية يستخدمونها لإرسال إشارات واضحة حول توجهاتهم للسوق. ويكون تذبذب سعر الصرف محدوداً حول هذا السعر المحدد، مما يساعد السلطات على الحفاظ على استقرار العملة ضمن نطاق معين.

في العام الماضي، كان تركيز سعر التثبيت اليومي في الصين منصباً بشكل أساسي على تقليل الخسائر، رغم أنه لم ينجح في منعها بالكامل. كما كانت مبيعات الدولار الأميركي من قبل البنوك المدعومة من الدولة من بين العوامل التي ساهمت في دعم العملة. إلا أن الأوضاع تبدلت في أواخر الشهر الماضي، حيث بدأ بنك الشعب الصيني تحديد سعر التثبيت اليومي بما يتماشى مع توقعات السوق، وفقاً لتقارير “بلومبرغ نيوز”. يبدو أن هناك تفسيراً منطقياً لهذا التحول، وهو أن المسؤولين في الصين يشعرون براحة أكبر عندما يصل سعر العملة إلى مستويات تتماشى مع توقعات ورغبات المستثمرين. ومع احتمال أن يقوم بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بتخفيض أسعار الفائدة عدة مرات خلال العام الحالي، فمن الطبيعي أن يتجه المضاربون إلى تفضيل اليوان الصيني، نظراً لجاذبيته المتزايدة في هذه الظروف.

توقعات متشائمة للصين

الأمر الأكثر إثارة للانتباه هو أن هذا الانتعاش يحدث في ظل توقعات أكثر تشاؤماً للاقتصاد الصيني. فقد انكمش نشاط التصنيع للشهر الرابع خلال أغسطس الماضي، وفق بيانات صدرت يوم السبت. برزت مشكلات سوق العقارات السكنية قبل ذلك بوقت يسير عندما أعلنت شركة “تشاينا فانك”،وهي من كبرى شركات التطوير العقاري، عن خسارة خلال النصف الأول من العام منذ عقود. بالإضافة إلى ذلك، قلص بنك “يو بي إس غروب” مؤخراً تقديراته لنمو السنة الجارية إلى 4.6%، متراجعاً عن توقع سابق 4.9%.

تشير هذه الأرقام إلى تراجع الثقة في قدرة الحكومة الصينية على تحقيق هدف النمو الاقتصادي المحدد عند نحو 5% لهذا العام. ربما يكون من الحكمة أن تراجع الصين فكرة تحديد أهداف نمو محددة، إذ قد تصبح هذه الأهداف في بعض الأحيان غير واقعية كمقياس لأداء الاقتصاد. لا شك أن الصين تمر بفترة اقتصادية صعبة.

أما بالنسبة لربط التعافي المتواضع لليوان الصيني والانتعاش الأوسع في المنطقة بما يحدث في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، فقد يبدو هذا الربط تبسيطاً مبالغاً فيه. إلا أن العديد من التحليلات تشير إلى أن خطاب رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، في اجتماع جاكسون هول أواخر الشهر الماضي، عندما قال إن الوقت قد حان لتخفيض أسعار الفائدة كان له تأثير واضح. على سبيل المثال، تُعزى مكاسب الين الياباني الكبيرة إلى تصريحات باول في هذا الاجتماع، وفقاً لشركة “ماكواري غروب” (Macquarie Group) التي تراهن على صعود العملة اليابانية.

السبب الحقيقي للتحولات في الأسواق

خلال فعالية أخرى للبنك الفيدرالي لم تحظَ بالاهتمام الكافي، التي جرت في 31 يوليو الماضي، مع ختام اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، لم يترك بيان البنك المركزي الأميركي وتصريحات جيروم باول خلال مؤتمره الصحفي أي مجال للشك في أن تخفيضات أسعار الفائدة كانت تقترب تدريجياً. هذا التحرك، على الأرجح، كان السبب الحقيقي للتحولات التي نشهدها في الأسواق.

لطالما سعت الصين جاهدة لاحتواء الرهانات السلبية على اليوان، وفي الوقت نفسه عملت على تعزيز استخدامه كعملة عالمية. ومن المفارقات أن كل ما يحتاجه الأمر لتحقيق هذا الهدف هو صدور تصريحات من البنك المركزي الأميركي. يوضح هذا التناقض مدى التحديات التي تواجهها الصين في محاولاتها تقويض هيمنة الدولار بشكل ملموس. في الوقت الراهن، يظل بنك الاحتياطي الفيدرالي، أو كما يمكن تسميته “كوكب الفيدرالي”، محتفظاً بتأثيره العالمي الواسع. ورغم هذا، يمكن القول إن تأثيره على منافسيه يجعلهم في النهاية يخدمون أصدقاءهم، حتى وإن كانوا أعداء.

الخلاصة

يتناول هذا المقال تأثير سياسات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على العملات الآسيوية، وخاصة اليوان الصيني. رغم تدهور الأوضاع الاقتصادية في الصين وتراجع الثقة في تحقيق النمو المستهدف، شهد سعر اليوان ارتفاعاً بسبب التوقعات بتخفيضات قادمة في أسعار الفائدة الأميركية. يشير الكاتب دانيال موس إلى أن هذه الارتفاعات جاءت بفضل قرارات الفيدرالي الأميركي وليس بسبب تحسن الأوضاع الاقتصادية في الصين. هذا يعكس مدى اعتماد الاقتصاد الصيني على السياسة النقدية الأميركية، ويبرز التناقض بين محاولات الصين لتعزيز مكانة اليوان عالمياً وتأثير قرارات البنك المركزي الأميركي على استقرار العملة الصينية.

المصدر: صحيفة اقتصاد الشرق

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *