لغز «نيفر نفروا تن».. ملكة ظهرت في المنيا واختفت من التاريخ

لغز «نيفر نفروا تن».. ملكة ظهرت في المنيا واختفت من التاريخ

في تاريخ الحضارات، لا تولد الأسئلة الكبرى من اليقين، بل من المساحات الرمادية التي تتركها الأزمنة خلفها؛ وحين يتقاطع الغموض مع السلطة، تُفتح أبواب الفلسفة قبل التاريخ. 

من هذا المنظور، تبدو قصة “نيفر نفروا تن” أكثر من مجرد سيرة حاكم غامض ظهر في زمن مضطرب؛ إنها مرآة تعكس هشاشة الحقيقة حين تُدوّن بقلم المنتصر، وهشاشة الوجود حين يطويه الزوال.

فالإنسان، منذ فجر الحضارة، سعى إلى تخليد اسمه فوق الحجر، وفي المقابل سعت السلطة إلى محو من لا يوافق رؤيتها من هذه الحجارة نفسها؛ هكذا تحوّل التاريخ ذلك السجل الذي نعده مرآة الماضي إلى مسرح تتصارع فيه الذاكرة مع النسيان. 

نيفر نفروا تن

وفي قلب هذا الصراع تقف “نيفر نفروا تن”؛ شخصية نصفها أسطورة ونصفها حقيقة، تتحدّى المؤرخ وتستفز الفيلسوف.

بهذا المعنى، لا تمثل “نيفر نفروا تن” مجرد لغز أثري، بل تجربة إنسانية تكشف عن صراع الإنسان مع الزمن، وعن هشاشة الحقيقة حين تتقاطع مع المصالح، وعن قدرة الغموض على البقاء أطول من الوضوح.

إنها تذكير بأن الحضارات لا تُنسى حين تُمحى آثارها، بل حين نتوقف عن البحث عن قصصها.

فنيفر نفروا تن ليست مجرد ملكة أو وريثة للعرش، بل هي شخصية ظهرت فجأة في نهاية عهد الملك أخناتون، وحكمت مصر لفترة قصيرة، ثم اختفى اسمها من السجلات والأثر بطريقة غير مسبوقة، وكأنها لم توجد.

ظهور مفاجئ في قلب أخيتاتون

بدأت القصة في أواخر عهد الملك أخناتون، الذي اتخذ من مدينة أخيتاتون (تل العمارنة بالمنيا) عاصمة لدولته، حيث ظهر اسم جديد بين السجلات الملكية: “عنخ – خبر – رع نيفر نفروا تن”، حيث حمل الاسم دلالات ملكية لا تُمنح إلا للحكام، ما أثار تساؤلات الباحثين حول مكانتها الحقيقية.

ظهرت نقوش تحمل اسمها في أماكن متفرقة داخل مدينة أخيتاتون، بما في ذلك بعض المقابر الملكية والمناطق الدينية؛ الأمر المثير أن هذه النقوش جاءت في فترة اتسمت بالتوتر السياسي والديني نتيجة التحولات التي أحدثها أخناتون بفرض عبادة الإله الواحد “آتون”.

امرأة على العرش؟

تذهب أغلب النظريات الحديثة إلى أن نيفر نفروا تن كانت امرأة اعتلت العرش بعد أخناتون، وربما شاركته الحكم في سنواته الأخيرة.

وتزداد الغرابة حين يكشف بعض المؤرخين أنها قد تكون نفرتيتي نفسها، التي يُرجّح أنها تولّت الحكم منفردة بعد وفاة زوجها، مستخدمة لقبًا ملكيًا جديدًا.

فيما نسجت الدلائل سردية أن تكون نفرتيتي نفسها “نيفر نفروا تن” ذلك كون التشابه القوي بين لقب “نيفر نفروا تن” وبين أحد ألقاب نفرتيتي السابقة، وكذا وجود آثار تشير إلى حاكم يحمل صفات أنثوية رغم استخدام الألقاب الملكية الذكورية بالإضافة إلى ضعف وجود أدلة تؤكد وجود امرأة أخرى تحمل الاسم نفسه في العائلة الملكية.

لكن الجدل ما زال مستمرًا، لأن هناك وثائق أخرى تشير إلى احتمال أن تكون “نيفر نفروا تن” ابنة أخناتون، مثل “مريت آتون”، التي قد تكون تولت الحكم لفترة قصيرة قبل صعود توت عنخ آمون.

دور غامض في انتقال السلطة

عُرفت فترة السنوات الأخيرة من حكم أخناتون وما تلاها بكونها واحدة من أكثر الفترات اضطرابًا في تاريخ مصر القديمة.

فخلال هذه المرحلة، توفي عدد من أبناء العائلة الملكية بشكل مفاجئ، وكذا تراجع نفوذ عبادة آتون تدريجيًا بعد وفاة أخناتون، في برزت الحاجة إلى حاكم مرحلي يدير الدولة حتى استقرار السلطة.

ويعتقد الباحثون أن نيفر نفروا تن لعبت دور “الحاكم الانتقالي” قبل تولي سمنخ كارع أو توت عنخ آمون الحكم.

اختفاء من السجلات

أكثر ما يزيد الغموض هو اختفاء اسم نيفر نفروا تن فجأة من جميع السجلات، دون ذكر سبب أو تفاصيل.

فخلال السنوات التي أعقبت عهد أخناتون، سعى الحكام الجدد  وعلى رأسهم حورمحب،  إلى محو آثار الثورة الدينية التي أحدثها أخناتون، وجرى إزالة أسماء كل من شاركوا في تلك الحقبة.

ومن المحتمل أن يكون اسم نيفر نفروا تن قد تعرّض للمحو المتعمد باعتبارها جزءًا من النظام السابق، مثلما حدث مع أخناتون وسمنخ كارع ونفرتيتي.

ورغم ذلك، ما تزال بعض القطع الأثرية التي تحمل اسمها تظهر بين الحين والآخر في مناطق مختلفة من المنيا، مما يبقي قصتها حيّة مهما طال الزمن.

أكبر لغز بتاريخ العمارنة

يصف علماء المصريات لغز “نيفر نفروا تن” بأنه واحد من أعقد ألغاز التاريخ المصري، لأنها ظهرت فجأة بلا نسب واضح، وكذا حملت لقبًا ملكيًا لا يُمنح إلا للحكام، كما جمعت بين صفات الملك والملكة في آن واحد.

ما يزيد الأمر تعقيدا اختفاء آثارها بشكل ممنهج وغامض، وكذا ارتباطها بفترة شديدة الحساسية سياسيًا ودينيًا.

فيما تشير البعثات الأثرية العاملة في المنيا إلى أن المزيد من أسرار هذه الشخصية قد تُكشف إذا أمكن العثور على مقبرتها المفقودة حتى اليوم.

صراعات داخل القصر الملكي

تبقى “نيفر نفروا تن” رمزًا لفترة غنية بالأحداث في تاريخ مصر القديم، فترة شهدت ثورة دينية وفكرية غير مسبوقة، وصراعات داخل القصر الملكي، وانتقالات سلطة غير واضحة.

ومع استمرار الاكتشافات الأثرية في المنيا، ربما يأتي يوم تُكشَف فيه الحقيقة كاملة عن هذه الحاكمة التي طوتها الرمال ورفض التاريخ أن يمنحها نهاية واضحة.

نقلاً عن : الجمهور الاخباري

مها أحمد، كاتبة متميزة في قسم المنوعات، تمتلك موهبة في تقديم محتوى متنوع وجذاب يلامس اهتمامات القراء في مختلف المجالات. من خلال أسلوبها السلس والإبداعي، تغطي مها مواضيع شاملة تتراوح بين الثقافة والفن، الصحة، السفر، ونمط الحياة. تسعى مها إلى تقديم مقالات ممتعة ومفيدة تضيف قيمة إلى تجربة القارئ اليومية، وتعكس شغفها بنقل الأفكار الجديدة والنصائح العملية التي تهم كل أفراد الأسرة.