كارتر وهزيمة ريجان بسلاح التضخم.. هل يُعيد التاريخ نفسه؟

كارتر وهزيمة ريجان بسلاح التضخم.. هل يُعيد التاريخ نفسه؟

عمرو جوهر – كاتب صحفي مقيم في العاصمة الأمريكية

كانت رئاسة جيمي كارتر من عام 1977 إلى عام 1981، وهي الفترة التي اتّسمت باضطرابات اقتصادية كبيرة، لا سيما “الركود التضخمي”، وهو مزيج قاتل من التضخم المرتفع، والنمو الاقتصادي البطيء، وارتفاع معدلات البطالة.

وأصبحت هذه البيئة الاقتصادية غير العادية والصعبة واحدةً من القضايا المركزية في رئاسة كارتر، مما أسهم في نهاية المطاف في هزيمته أمام رونالد ريجان، في انتخابات عام 1980.

ووجد كارتر، الذي تولّى منصبه بوعود تجديد الثقة في الحكومة بعد فضيحة ووترجيت، أن إدارته غارقة في التحديات الاقتصادية التي عصفت بالبلاد.

الركود التضخمي، وهو مصطلح صيغ في سبعينيات القرن العشرين، يصف اقتصادا راكدا يعاني أيضا من التضخم، وهذا أمر إشكالي؛ لأن الأدوات النموذجية لمعالجة مشكلة واحدة يمكن أن تؤدّي إلى تفاقم المشكلة الأخرى.

على سبيل المثال، غالبا ما تنطوي مكافحة التضخم على رفع أسعار الفائدة للحدّ من الإنفاق، لكن هذا يمكن أن يؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي بشكل أكبر، وإلى ارتفاع معدلات البطالة.

لقد حدّد كفاح كارتر لمعالجة هذا المستنقع الاقتصادي، إلى جانب الصدمات الخارجية مثل أزمة الطاقة، جزءا كبيرا من رئاسته، وخلق فرصة لرونالد ريجان، للاستفادة من استياء الناخبين.

جذور الركود التضخمي

يُمكن إرجاع جذور الركود التضخمي، خلال رئاسة كارتر، إلى أوائل سبعينيات القرن العشرين، لكن كارتر ورث الكثير مِن المشاكل عندما تولّى منصبه في عام 1977.

كانت البيئة الاقتصادية في الولايات المتحدة قد بدأت بالفعل في التحوّل بشكل كبير، بسبب سلسلة من الصّدمات الخارجية والخطوات السياسية الخاطئة.

كان أحد المساهمين الرئيسيين في ذلك هو أزمة النفط في عام 1973، عندما فرض أعضاء منظّمة البلدان المُصدِّرة للبترول (أوبك) حظرا نفطيا، مما أدّى إلى ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير، وظهور طوابير طويلة في محطات الوقود بجميع أنحاء الولايات المتحدة.

وقد أرسلت صدمة ارتفاع أسعار النفط تأثيرات متتالية في جميع أنحاء الاقتصاد، مما أسهم في التضخم مع تباطؤ النمو الاقتصادي، إذ عانت الصناعات المعتمدة على الطاقة من ارتفاع التكاليف.

خلال السنوات التي تلت ذلك، أصبح التضخّم راسخا في الاقتصاد، وبحلول الوقت الذي تولّى فيه كارتر منصبه، كان التضخم يتراوح بالفعل حول 6%، وبحلول عام 1979، ارتفع إلى أكثر من 13%. وقد تفاقم ارتفاع تكلفة الطاقة والمواد الخام بسبب الظروف الاقتصادية العالمية؛ مثل ضعف الدولار الأمريكي والافتقار إلى التنسيق بين الاقتصادات الصناعية الكبرى.

بالإضافة إلى ذلك، سمحت السياسات النقدية المتساهلة، التي انتهجها بنك الاحتياطي الفيدرالي، للتضخم بالجري دون رادع، في الوقت نفسه، كان الاقتصاد يعاني تباطؤ النمو.

لقد بدت النظريات الاقتصادية التقليدية، التي ركّزت على تحفيز الطلب لتعزيز النمو، غير فعَّالة في هذه البيئة الجديدة، فقد ظلّت معدلات البطالة مرتفعةً بشكل عنيد، خاصةً في قطاعات مثل التصنيع الذي كان يكافح للتكيُّف مع ارتفاع تكاليف الإنتاج، وقد أحبط هذا الشلل الاقتصادي إدارة كارتر، التي سعت إلى إيجاد حلول، لكنّها واجهت أدوات سياسية محدودة، يُمكنها معالجة التضخّم والركود بشكل فعَّالٍ في وقت واحد.

استجابة كارتر للركود التضخُّمي

كانت استجابة جيمي كارتر للركود التضخّمي عبارةً عن مزيجٍ مِن التدابير الاقتصادية التقليدية وغير التقليدية، على الرغم مِن أنَّ العديد مِن هذه السياسات كافحت لإنتاج النتائج المرجوّة.

في عام 1977، بدأ كارتر سلسلةً من برامج التحفيز التي تهدف إلى تعزيز فرص العمل والنمو الاقتصادي، وركّزت هذه البرامج على توسيع الأشغال العامة، والاستثمار في البنية الأساسية، ودعم الصناعات التحويلية.

ومع ذلك، تقوّضت هذه الجهود بسبب الارتفاع المتزامن في التضخم، إذ أدّى الإنفاق الحكومي المتزايد إلى تغذية الطلب في اقتصاد مشتعل بالفعل، مما أدى إلى المزيد من الزيادات في الأسعار.

كما حاوَل كارتر معالجة التضخم بشكل مباشر، بتعيين بول فولكر رئيسا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في عام 1979.

وكان فولكر مِن أشدّ المؤيدين للسيطرة على التضخم، حتى على حساب النمو الاقتصادي في الأمد القريب.

وتحت قيادته، بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة بشكل عدواني، في محاولة للحدّ من الضغوط التضخمية.

ونجحت هذه السياسة، المعروفة باسم “النقد الضيق”، في إبطاء التضخم بمرور الوقت، لكنها دفعت أيضا الاقتصاد الأمريكي إلى ركود أعمق، مع ارتفاع معدّلات البطالة نتيجة لذلك.

تضمّن نهج كارتر أيضا إصلاح الطاقة، إذ أدرك الدور الحاسم الذي لعبته أسعار النفط المرتفعة في تغذية التضخم. في عام 1977، أسَّس وزارة الطاقة، وكشف عن سياسة طاقة شاملة، تهدف إلى تقليل الاعتماد الأمريكي على النفط الأجنبي.

تضمّنت هذه الخطة مبادرات لتعزيز مصادر الطاقة البديلة، وتشجيع الحفاظ على الطاقة، وتنظيم أسعار الطاقة.

ومع ذلك، كانت هذه الجهود غير ناجحةٍ إلى حد كبير، وفي عام 1979، تسبَّبت أزمة نفطية أخرى، ناجمة عن الثورة الإيرانية، في ارتفاعٍ آخر في أسعار الطاقة، مما أدّى إلى تفاقم التضخّم وتعميق الإحباط العام تجاه قيادة كارتر.

التداعيات السياسية

كان لعجز كارتر عن ترويض الركود التضخمي عواقب سياسية كبيرة، ومع تفاقم الوعكة الاقتصادية، تآكلت ثقة الجمهور في إدارته.

وبحلول نهاية ولايته، لم يكن التضخّم يُنظَر إليه باعتباره مشكلة اقتصادية فحسب، بل وأيضا باعتباره رمزا لعدم فعالية الحكومة.

وكان هذا التصوّر ضارّا بشكل خاص؛ لأن كارتر ترشَّح لمنصبه باعتباره دخيلا على واشنطن، ووعد بالكفاءة والتجديد في أعقاب فضيحة ووترجيت، ومع ذلك، فإنّ الجمع بين ارتفاع التضخم وارتفاع معدلات البطالة وارتفاع أسعار الفائدة خلق شعورا بالتشاؤم الوطني.

أصبحت انتخابات عام 1980 بمثابة استفتاء على تعامل كارتر مع الاقتصاد، واستغلّ رونالد ريجان، المرشّح الجمهوري، الاستياء الواسع النطاق من خلال تقديم بديل صارخ.

ركّزت حملة ريجان على التفاؤل الاقتصادي، ووعدت بالعودة إلى الرخاء مِن خلال خفض الضرائب، وتقليص التنظيم الحكومي، والالتزام الرّاسخ بمبادئ السوق الحرّة.

لقد كان لرسالته الاقتصادية، والتي غالبا ما تُلخَّص في عبارة “اقتصاديات ريجان”، صدى لدى عامَّة الناس الذين كانوا حريصين على التخلُّص مِن الصّعوبات الاقتصادية التي واجهتهم في سنوات كارتر.

لقد كان فوز ريجان الحاسم في عام 1980 راجعا إلى حد كبير إلى إحباط الناخبين من الركود التضخمي، فقد فاز بأغلبية ساحقة، وحصل على 489 صوتا انتخابيا، مقابل 49 صوتا لكارتر.

كما شهدت الانتخابات تحوّلا أيديولوجيا كبيرا في السياسة الأميركية، إذ اكتسبت سياسات ريجان المحافظة، خاصّة تأكيده على تحرير القيود واقتصاد جانب العرض، دعما واسع النطاق على النقيض من السياسات الأكثر تدخّلا لإدارة كارتر.

سوف ترتبط رئاسة جيمي كارتر إلى الأبد بالصراعات الاقتصادية التي تسبّب فيها الركود التضخمي، وعلى الرغم من بذله قصارى جهده لمعالجة التضخم والركود، فقد وجد كارتر نفسه مُحاصرا بين الضرورات الاقتصادية المتضاربة، عاجزا عن تحقيق التعافي الاقتصادي الذي سعى إليه الناخبون بشدة.

لقد أدّى الجمع بين ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع معدلات البطالة وتباطؤ النمو، إلى خلق بيئة ناضجة للتغيير السياسي، وكان فوز رونالد ريجان في عام 1980 إيذانا ببدء اتجاه جديد في السياسة الاقتصادية الأمريكية.

وتسلّط الدّروس المستفادة من رئاسة كارتر الضوء على التحديات الهائلة التي يفرضها الركود التضخمي على صنّاع السياسات، فضلا عن العواقب السياسية القوية المترتّبة على الفشل في معالجة الضائقة الاقتصادية بشكل فعّال.

المصدر: صحيفة الوئام السعودية

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *