لم يكن أكتوبر الماضي شهراً تقليدياً بالنسبة إلى مجتمع التشفير، حيث لم تسجل أسعار العملات المشفرة ارتفاعاً ملحوظاً كما هو معتاد، مما يخالف النمط السائد الذي أكسب الشهر سابقاً لقب “أبتوبر” (Uptober).
يدرك المجتمع جيداً أن الوضع مختلف هذا العام، خاصة في ظل قرب الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي تشهد منافسة شرسة بين دونالد ترمب وكامالا هاريس.
ويُتوقع أن يكون لنتائج هذه الانتخابات تأثير كبير على مستقبل قطاع التشفير من الناحيتين القانونية والتنظيمية، إذ يتبنى كل من ترمب وهاريس مواقف داعمة للقطاع، وإن بدرجات متفاوتة. فترمب ألقى بكل أوراقه المميزة في ساحة التشفير، رغم مواقفه السابقة المناهضة للقطاع. من جهتها، قدمت هاريس وعوداً داعمة لكنها افتقرت للتفاصيل، مما يعكس الغموض العام في برنامجها الانتخابي.
موقف هاريس
يرى بليك مورغان، الشريك الإداري في شركة “مينرال فولت” (Mineral Vault ) شخصية هاريس، بوصفها منفتحة على التكنولوجيات الحديثة، لذا لا يتصور أن تتصرف بطريقة “تسحق الابتكار” في حال فوزها بالرئاسة، ما يعني أنها ستدعم نمو العملات المشفرة بطريقة “مسؤولة”، مع التركيز على إرساء قواعد لإدارة المخاطر، بما يسمح بحماية المستهلكين ومكافحة غسيل الأموال، وذلك بسبب خلفيتها كمدعية عامة سابقة.
من جهته، يذكّر المحامي أليكس مور من شركة المحاماة “كارينغتون كولمان” في دالاس بتصريحات هاريس التي تشدد على أهمية محافظة الولايات المتحدة على الريادة في تكنولوجيا سلاسل الكتل “بلوكتشين”، كما أنها تتبنى استراتيجية تهدف إلى “تشجيع التقنيات المبتكرة مثل الذكاء الاصطناعي والأصول الرقمية مع حماية المستهلكين والمستثمرين”.
واعتبر في تصريحات لـ”الشرق”، أن الأولوية لهاريس قد تتجه نحو حماية المستهلك وتدابير مكافحة غسل الأموال، وهو ما “قد يبطئ من نمو القطاع إذا أثبتت هذه التدابير أنها مرهقة للصناعة الناشئة”، واعتبر أن “تصريحات هاريس توحي بموقف مؤيد للعملات المشفرة، مما يدفع البعض إلى التكهن بأنها ستتخذ نهجاً مختلفاً عن الإدارة الحالية. ومع ذلك، لم تعلن هاريس بوضوح عن خطة من شأنها تخفيف الأعباء التنظيمية التي تواجهها شركات الأصول الرقمية”.
فند الرئيس التنفيذي لبنك “إف في” (FV Bank) في الولايات المتحدة مايلز باشيني رؤيته بشأن القطاع وسياسات المرشحين للرئاسة. واعتبر في تصريح لـ”الشرق” أن الديمقراطيين أبدوا اهتماماً بصناعة التشفير لحماية المستهلكين ومنع الأنشطة غير المشروعة، ولكنهم “لم يفعلوا الكثير لتمهيد الطريق للتنظيم الذي سيعزز النمو وثقة المستثمرين في الولايات المتحدة”.
وأضاف أنه للحصول على دعم من مجتمع التشفير، يحتاج الحزب إلى إيجاد توازن بين التنظيم والابتكار. ورأى أنه “مع الافتقار إلى الجوهر في خطواتهم، فقد تركوا الباب مفتوحاً للحزب الجمهوري لجذب المؤيدين لهذه القضية المهمة”.
ورجح باشيني أن تؤكد هاريس على هذه النقاط نظراً للأصوات القوية المناهضة للعملات المشفرة في الحزب الديمقراطي، وبالتالي فإن الخوف يتمثل في أن “التنظيم سيكون من جانب واحد، ويفتقر إلى المساحة اللازمة لتعزيز الابتكار والقدرة التنافسية مع السلطات القضائية المالية العالمية”، معتبراً أن “الإفراط في حماية المستهلك وفي هندسة قوانين مكافحة غسل الأموال الحالية، يمكن أن يعيق النمو والمنافسة العالمية للولايات المتحدة”.
ترمب يغير موقفه
من جهته، يشكك مورغان في أن يذهب دونالد ترمب إلى حظر العملات المشفرة، معتبراً أنه سيحاول “الحد من قدرتها على المنافسة مع التمويل التقليدي”، خصوصاً أنه كان دائم الحرص على “حماية النظام المالي التقليدي”.
وأضاف أن ترمب يُعرف بأنه مؤيد للأعمال التجارية، لذا “قد يميل إلى تقليل القيود التنظيمية” لمنح الشركات الناشئة المحلية التي تعمل في مجال العملات المشفرة، ميزة تنافسية. ولكن في الوقت نفسه، فهو “مهتم بحماية المؤسسات المالية الكبرى، لذا لن يكون الأمر بلا ضوابط”، وفق تعبيره، مضيفاً: “سيكون هناك بعض الشد والجذب بين مساعدة الشركات الجديدة والحفاظ على الوضع الراهن”.
رغم أن الرئيس السابق أعلن في مناسبات عدة تأييده للعملات المشفرة، وتعهد بالقيام بالعديد من المبادرات لدعم القطاع، إلا أن مورغان كان يلمح إلى تصريحات ترمب السابقة، حيث لم يخف المرشح الجمهوري كراهيته للعملات المشفرة، خصوصاً بعدما وصف “بتكوين” في 2021 بأنها “تبدو وكأنها عملية احتيال. لا أحبها؛ لأنها عملة أخرى تنافس الدولار”.
حال ترمب انقلب تماماً خلال الانتخابات الحالية، إذ تعهد بطرد رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية غاري غنسلر، في اليوم الأول لتسلمه سدة الرئاسة، كما وعد بخفض كلفة الكهرباء، ما يساعد في عملية التعدين، كما قال في أحد المؤتمرات الانتخابية الأخيرة أنه يريد “إنتاج كل ما تبقى من عملة بتكوين في الولايات المتحدة”.
اعتبر مدير الاستثمار في “كاسل فندز” (Castle Funds) بيتر إيبرلي، أن تصريحات ترمب الأخيرة تشكل “تحولاً كبيراً” في موقف الرئيس السابق، متسائلاً: “هل غير رأيه بشأن بتكوين، أم أنه أدرك للتو بأن هذا موضوع مهم بالنسبة للعديد من الناخبين؟”.
ورجح إيبرلي في حديثه لـ”الشرق”، بأن ترمب “اكتشف أن العديد من الناخبين رأوا أن حقوقهم في الوصاية الذاتية على أصولهم الرقمية مهددة، وأن هذه القضية مهمة للغاية، لدرجة أنها تدفع قرارات التصويت الخاصة بهم”، مضيفاً: “يبدو أن حملته تسعى إلى إظهار اختلاف واضح بين آرائه الجديدة وآراء إدارة بايدن-هاريس، التي كانت معادية لصناعة الأصول الرقمية على عدة جبهات”.
برأي إيبرلي الذي كان عضواً في لجنة إدارة مخاطر مشتقات الأسهم الأميركية، فإن “التنظيم الأكثر توازناً، والوضوح حول أولويات الجهات التنظيمية في ما يتعلق بالأصول الرقمية، سيكونان من المواضيع الساخنة في انتخابات الكونغرس ومجلس الشيوخ لعام 2024، وكذلك في الانتخابات على مستوى الولايات”.
هل غير ترمب رأيه بشأن بتكوين، أم أنه أدرك للتو بأن هذا موضوع مهم بالنسبة للعديد من الناخبين؟
بيتر إيبرلي
ولكن المستشار في مجال العملات المشفرة جيمس غروندفيغ الذي يعمل حالياً على مشروع العملة المشفرة التي أطلقها ترمب أخيراً كان له رأي آخر.
غروندفيغ اعتبر في تصريح لـ”الشرق”، أن ترمب “ملتزم” تماماً بدعم العملات المشفرة، مشدداً على أن موقف الرئيس السابق من هذه العملات قد “تحول”، وبات “يلاحظ خطوط الاتجاه التي نشأت في الآونة الأخيرة في هذا القطاع”.
ويعتقد بأن ترمب سيعمل على تحقيق 3 أهداف رئيسية في القطاع حال قدومه إلى سدة الرئاسة. أول هذه الأهداف يتمثل في إلغاء القيود التنظيمية لتوليد النمو، مع حماية المستثمرين والمستهلكين. كما سيعمل على تحفيز المجازفين بسلسلة من التخفيضات الضريبية، وسيعرض قروضاً ومنحاً حكومية بشروط سداد مواتية، وهو ما سيسمح للمؤسسات المالية التقليدية بتبني هذه التكنولوجيا، أو قيادتها، أو حتى الفشل فيها، وذلك في إطار سوق تنافسية مفتوحة.
يدرك ترمب أن الولايات المتحدة “تخلفت” عن دول مثل الصين في تطوير العملات المشفرة والأصول الرقمية، وقد أكد على ذلك في عدة مناسبات. لهذا، وبرأي غروندفيغ، فإن ترمب سيتحرك بسرعة في عامه الأول لمواجهة تحدي تعزيز التنمية في تقنيات سلاسل الكتل “بلوكتشين”، و”تحرير الشركات الناشئة من المتطلبات الحكومية المقيدة”، معتبراً أن سياسات ترمب التي تعتمد على تقليل التدخل الحكومي وزيادة الحوافز ستسد الفجوة مع آسيا، وستجبر الاتحاد الأوروبي أيضاً على إعادة النظر في موقفه المتشدد ضد تطوير العملات المشفرة.
ومن جهته، رجح مايلز باشيني أن يميل ترمب نحو “الهيمنة التجارية” في أي تنظيم، من دون المساس بحماية المستهلك ومتطلبات مكافحة غسل الأموال. ومن المرجح أيضاً أن يعالج ترمب الضرائب بطريقة أكثر تجارية لتمكين الابتكار والقدرة التنافسية من الازدهار.
مع الافتقار إلى الجوهر في خطواتهم، فقد تركوا الباب مفتوحاً للحزب الجمهوري لجذب المؤيدين لهذه القضية المهمة
مايلز باشيني
تأثير الانتخابات على الأسعار وسوق التشفير
على الرغم من وجود أيام قليلة تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية، إلا أن التصريحات والسياسات التي كشف عنها كلا المرشحين، ستؤثر على أسعار العملات المشفرة، وعلى مستقبل ونمو القطاع ككل.
اعتبر مارك كونورز، رئيس استراتيجية الاقتصاد الكلي العالمي في شركة “أونرامب بتكوين” أن هناك 3 عوامل رئيسية تحدد الصورة التي سينمو عليها القطاع.
العامل الأول يتمثل في الخطوات التنظيمية، وفيها يتفوق ترمب على هاريس، وذلك “إذا صدق في تعهداته”، وفق كونورز. ورأى أن وصول ترمب إلى سدة الرئاسة سيعني “فوزاً كبيراً” للقطاع، خصوصاً أنه أوضح أنه يفضل المرشحين الجمهوريين “هيستر إم بيرس” و”مارك تي أويدا” لقيادة هيئة الأوراق المالية والبورصات على رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات الحالي، والذي يعتبره أنصار هذا القطاع “مقيداً”. وأشار إلى أن تنحية رئيس اللجنة عن منصبه سيعني “إزالة عقبة تنظيمية كبيرة” أمام القطاع.
ويضيف أن هاريس عمدت إلى إطلاق “وعود شفوية غير مقترنة بأفعال في هذا المجال”، خصوصاً أنها لا تزال في منصب نائبة الرئيس، لذا “فإن كانت الإدارة الحالية تريد دعمها في هذا المجال، كانت ستعطي تلميحات بأنها قد تراجع القيادة الحالية للجنة، ولكنها لم تفعل ذلك”.
العامل الثاني هو الصناعة، إذ أظهر مديرو الأصول بالفعل أنهم متحمسون لبتكوين وبدرجة أقل لعملة إثيريوم. ولمّح كونورز إلى صندوق بتكوين المتداول في البورصة الذي أعلنت عنه “بلاك روك” مؤخراً، معتبراً أن الصندوق استغرق 44 يوماً للوصول إلى 10 مليارات دولار، وهو ما يفوق الرقم القياسي السابق الذي سجله الصندوق المماثل التابع لـ”جيه بي مورغان”، والذي استغرق عامين ونصف العام للوصول إلى هذا الرقم.
ويضيف أن قطاع إدارة الأموال يتطلع إلى منتجات مرتبطة بالعملات المشفرة، وعمالقة هذه القطاع لا ينتظرون قدوم رئيس للتحرك، بل يسعون إلى توفير كل أشكال منتجات “بتكوين” لعملائهم، وهم ماضون قدماً في هذا الأمر. ولكنه نبه إلى أن التداول في “بتكوين” يحتاج إلى تغيير بعض القواعد التنظيمية، خصوصاً لجهة احتفاظ البنوك بالعملات الافتراضية.
تقوم صناديق الاستثمار المتداولة في البورصة بالاعتماد على وكيل للاحتفاظ بهذه العملات المتداولة، ولجعل “بتكوين” قابلة للتداول تماماً كالأسهم، يجب على البنوك أن تتمكن من الاحتفاظ بهذه العملات، وهو أمر بدأت إدارة بايدن بالسماح به، إذ وافقت هيئة البورصات والأوراق المالية الأميركية على إمكانية احتفاظ بنك “بي واي ميلون” بهذه العملات، وهو ما يمهد الطريق أمام بنوك أخرى للدخول إلى القطاع.
ويلمح كونورز في هذا السياق إلى أن الإدارة الأميركية الحالية “بدأت تتغير من أجل الحصول على الأصوات، وتوليد الأموال في مجموعة ضغط كبيرة جداً تُسمى البنوك”، وأن الإدارة الديمقراطية “بدأت بالفعل في تقدير الفرصة التي توفرها العملات المشفرة والأصول الرقمية لهم كحزب سياسي”.
العامل الثالث وهو الأسعار. لفت كونورز في هذا السياق إلى أن تراجع هاريس في استطلاعات الرأي في الآونة الأخيرة وخصوصاً تلك المرتبطة بمجتمع التشفير، انعكس ارتفاعاً في سعر بتكوين التي تشكل قيمتها السوقية 57% من مجمل قيمة سوق العملات المشفرة عالمياً.
كونورز اعتبر أن فوز ترمب في الانتخابات سيكون إيجابياً للأسعار والقطاع، أما في حال فازت هاريس فقد نشهد عمليات بيع “مكثفة” ولكنها “مؤقتة”.
أما بالنسبة للأسعار، فتشير أبحاث الشركة إلى أنه بغض النظر عن هوية الرئيس، فإن الإدارة المقبلة سحتاج إلى الاستمرار في الإنفاق بالعجز لتمويل المستحقات الحالية مثل الرعاية الصحية ونفقات الجيش، وبالتالي سيتم النظر إلى العملات المشفرة من أجل توفير المال أو تحسين إنتاجية البنوك.
يحوم سعر “بتكوين حالياً حول 71 ألف دولار، صاعداً بنحو 60% منذ بداية العام وتجاوزاً نمو سعر الذهب بالضعف. ويتوقع كونورز أن يقفز سعر العملة المشفرة إلى رقم من 6 خانات بحلول نهاية السنة، بغض النظر عن هوية الرئيس المقبل.
تداعيات تنظيمية عالمية محتملة
من شأن قدوم رئيس داعم للعملات المشفرة في الولايات المتحدة، وملتزم بالحفاظ على التقدم الأميركي في هذا المجال، أن يضغط على مراكز أخرى حول العالم روجت لنفسها بصفتها مكاناً مشجعاً للعملات المشفرة، مثل هونغ كونغ أو دبي.
ولكن ألكس مور المحامي في “كارينغتون كولمان” رأى أنه في حال تبني قواعد تنظيمية أكثر صرامة للعملات المشفرة في الولايات المتحدة، فإن ذلك من شأنه نقل الابتكار في مجال العملات المشفرة إلى الخارج. مشيراً إلى أن “هذا حدث بالفعل، ومن المرجح أن يستمر دون تشريع جديد”.
تصريحات هاريس توحي بموقف مؤيد للعملات المشفرة، مما يدفع البعض إلى التكهن بأنها ستتخذ نهجاً مختلفاً عن الإدارة الحالية
أليكس مور
ولفت إلى أنه “إذا استمرت الولايات المتحدة في دفع الابتكار في مجال العملات المشفرة إلى الخارج، فسوف يملأ آخرون الفجوة للاستفادة من هذه الفرصة، مما يؤدي إلى تأخر الولايات المتحدة في مجال الابتكار في هذا المجال”.
في المحصلة، يمكن إطلاق مقولة أن ما يحصل في الولايات المتحدة لا يبقى داخلها، فنظراً لأنها أكبر اقتصاد في العالم، فإن من شأن الرئيس المقبل، بغض النظر عن سياسته، أن يؤثر على القطاع في البلاد، وفي العالم بأسره. ولكن الأكيد أن القطاع لم يصل إلى مرحلة التلاشي، وهو مستمر في التطور بغض النظر عن هوية وسياسات ساكن البيت الأبيض الجديد.
المصدر: صحيفة اقتصاد الشرق