محاد الفهد.. وقصة إراغب

محاد الفهد.. وقصة إراغب

 

علي بن سهيل المعشني

asa228222@gmail.com

 

في يوم 14 رمضان عام 1999م في تمام الساعة الحادية عشرة صباحًا، تقريبًا دخلت السوق المركزي بصلالة، وكان السوق يعج بالحركة؛ حيث يتواجد باعة اللحوم في الجهة الشرقية من السوق، بينما تنفرد الجهة الجنوبية بعرض الأسماك والخضار.

وفي العادة تجتمع حلقات من الرجال في وسط السوق، مُعظمهم من كبار السن، يأتون من الجبال والبادية وأطراف مدينة صلالة، لشراء حاجياتهم اليومية أو الجلوس في أروقة السوق لتبادل الأخبار والأحاديث. فالبعض يبيع سمنًا، أو عسلًا، أو أغراضًا تقليدية مثل الخناجر وغيرها.

وسط هذا المشهد، كنتُ أشقُ طريقي نحو بسطة بيع اللحوم قاصدًا أحد الباعة المعروفين بعرض لحوم محلية عالية الجودة. وبينما أنا في الزحام، برز أمامي الشاعر والأديب محاد الفهد كشوب – رحمه الله -. التقت عيني بعينه، فرحب بي بصوتٍ دافئ: “جاعفيت برخضوف”، أي صبحك الله بالعافية بن خضوف وهو لقب معروف لعائلتي في ظفار فرددت عليه التحية: “بيتك تجهوم بردهق” أي ولكم بالمثل بلسان الريف وسلمت عليه. بعد تبادل التحية، طلبت أن أجلس معه لحديثٍ. فقلت له: “عمي محاد، بدأت في تأليف كتاب عن الفنون الريفية في ظفار كالدبرارت والنانا وغيرها، وهو كتابي الذي صدر لاحقاً تحت عنوان “ملامح من الأدب الشعبي في ظفار”. وأرغب في أخذ بعض الأشعار منكم”.

وعلى الفور، رحَّب وقال: “هل تستطيع أن تصلي معنا الليلة العشاء والتراويح في مسجد زيك بالجبل؟ وبعد الصلاة، تزورني في البيت”. وافقت على الفور ودون تردد، لأنها كانت فرصة تاريخية للجلوس مع مرجع فن الدبرارت في ظفار. وفي المساء من نفس اليوم، وصلت إلى المسجد وصلينا العشاء والتراويح، ثم صحبته إلى بيته الكريم، حيث تعشينا. ومن ثم، أخذنا لزوم الجلسة من حاجيات الشاي، وبساط وتكايات للجلسة بادرني بالقول: “خذ واحدة فقط لنفسك، أنا لا أتكي، أجلس أو أحتبي”. وصلنا إلى المكان مُقابل بيته في زيك على سهل منبسط مطل على سهوب الريف الحالمة كانت ليلة قمرية صافية، وبعد الجلوس استأذنته أن أقوم بتسجيل اللقاء بمسجل صوتي، فقال: “هيس عك، أي مثلما تريد”.

بدأنا الحديث عن حياته وبداياته الشعرية، حيث أخبرني أنه تأثر بالشاعر سالم بن آعتيق طعوري جعبوب، الذي كان يجتمع إليه القريب والبعيد للاستماع إلى شعره وحكمته. وأردف قائلًا: “كنت ملازماً مجلسه فترة طويلة”. وبعد سنوات من المتابعة المستمرة للشاعر سالم بن آعتيق، قال: “جتني إراغب ملهمتي لشعر  الدبرارت”.

قال لي: “سأخبرك الليلة بسر لم أكشفه لأحد من قبل، وهو أن إراغب هي التي تقول الدبرارت وتأتيني بها جاهزة، بلحنه”. هذه هي ما تسمى بالحليلة أو ملهمة الدبرات، حيث كانت تأتيني في اللحظات التي أحتاج فيها إلى نظم قصيدة جديدة. في وقت لاحق بعد وفاة الشاعر محاد الفهد، وأثناء إحدى زياراتي للشاعر المرحوم عامر شدر العمري، أخبرته بما قاله لي الفهد عن الحليلة التي سماها (إراغب) وكيف كانت تلهمه الدبرارت جاهزة! لكن الشيخ عامر شدر لم يستغرب هذا الحديث، وقال لي: “ذات ليلة، زارنا هنا محاد الفهد والشيخ هلال فضل الله تبوك ومعهم عدد من الرجال لا أذكرهم جميعاً وخلال الجلسة طلبت منه أن يسمعنا شيئًا من شعره، لكنه رفض، مؤكدًا أنه ليس في مزاج لقول الشعر. ولكن بعد إثارته بطريقة ذكية، مثلت فيها أنَّ لدي بيتين دبرارت منذ فترة طويلة ولم أستطع إكمالهما، وبعد أن سمعتهما له، شلَّ بالبيت الأول وواصل، وواصلت بالترديد معه حتى أنهى قرابة 80 بيتًا دون توقف”. عند توقفه، سألته: “الشيخ محاد، هل هذه الدبرارت لك؟ كنت تحفظها سابقًا؟” فرد قائلًا: “لا، أنا حلّيت لك عقدة البيتين، أي كملت لك ما تبقى من قصيدتك”. أكد الشيخ عامر شدر أن طريقته لا يُمكن أن تكون مع أي شاعر إلا إذا كان يمتلك ملكة شعر محاد الفهد.

هذا الإلهام الذي كان يأتيه من “الحليلة” يؤكد أن الشاعر محاد الفهد كان يمتلك موهبة فريدة، تميز بها دون شعراء الموروث الشعبي الغنائي في ظفار.

رحم الله الشاعر محاد الفهد مجدد شعر الدبرارت في ظفار، الذي ألهمته (إراغب) قصائده، كما ألهمت الجنُّ الأعشى عندما كان في طريقه إلى اليمن لمدح بعض أمراء حضرموت، حيث تذكر الرواية أنه في ليلة ممطرة، أظلم عليه الليل وهو في وادٍ مقفر موحش. فلجأ إلى كهف، وإذا به يرى رجلًا كثيف اللحية بيضاء الشعر. قال الأعشى: “من أنت؟”، فأجابه الرجل: “أنا عابر سبيل، وأنت؟”، فرد الأعشى: “أنا شاعر أتكسب بشعري”فطلب منه الرجل سماع بعض شعره، فأنشد الأعشى مطلع معلقته الشهيرة:

ودّع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعًا أيها الرجل؟

فسأله الرجل: “من هي هريرة؟” فرد الأعشى: “اسم انطلق في روعي”، بمعنى أنه اختاره عشوائيًا دون معرفة حقيقية. ثم واصل الأعشى إنشاده إلى أن قال:

تقول ماوية إن جئت زائرها

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

سأله الرجل ثانية: “ومن هي ماوية؟” فأجاب الأعشى بنفس الرد. عندها نادى الرجل: “اخرجي يا هريرة ويا ماوية”، فظهرتا أمامه على شكل فتاتين صغيرتين. قال الأعشى مندهشًا: “من أنت؟”، فأجابه الرجل: “أنا مسحل بن أثاثة من الجن، وهاتان هما هريرة وماوية، وأنا هاجسك الشعري الذي يلهمك القصائد”.

هذه القصص تكشف ارتباط الشعر بالإلهام الذي يوصف أحيانًا بأنه من الجن أو القوى الخارقة. وقد اعتقد كثير من الشعراء القدامى بهذا النوع من الإلهام الذي يأتي فجأة ودون تخطيط مسبق.

************************************

* دبرارت: فن غنائي من ريف ظفار

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *