في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية للرئاسة الأميركية، تبنى حلفاء دونالد ترمب فجأةً رسالةً جديدةً مفادها أن الولايات المتحدة تحتاج إلى إجراء تخفيض كبير وفوري وغير محدد المعالم في الإنفاق العام.
يقول إيلون ماسك، الذي كان يتحدث عن الهجرة منذ أكثر من عام، إنه سيشرف على تخفيضات في الإنفاق بقيمة تريليوني دولار، أي بما يعادل ثلث الميزانية الفيدرالية. وقد تعتقد لذلك أن لديهم خطة ما تتعلق بما يترتب على ذلك، غير أن كل ما قاله ماسك الأسبوع الماضي هو أننا سنتعرض لـ”معاناة مؤقتة”.
أي نوع من المعاناة؟ حسناً، أعلن رئيس مجلس النواب مايكل جونسون الأسبوع الماضي أن “إصلاح قطاع الرعاية الصحية سيشكل جزءاً كبيراً من هذا البرنامج” إذا فاز ترمب، ويشمل ذلك محاولة “شديدة الجرأة” لإلغاء قانون “الرعاية الصحية بأسعار معقولة”. وفي الأسبوع الماضي أيضاً تحدث ملياردير صناديق التحوط جون بولسون، وهو أحد مؤيدي ترمب، عن ضرورة إجراء تخفيضات كبيرة للإنفاق.
كل ذلك يرقى إلى اعتراف ضمني بأن برنامج ترمب السياسي هو احتيال غير قابل للتطبيق، وأن كل ما قاله أو فعله هو وفريقه تقريباً على مدى فترة الحملة الانتخابية كان يدور حول تجنب مناقشة القضايا الحقيقية التي تواجهنا.
زيادة الديون وعجز الموازنة
لنبدأ بالوضع الحالي. إن أداء الاقتصاد الأميركي جيد بشكل عام، وسط ارتفاع نمو الناتج المحلي الإجمالي متجاوزاً التوقعات التي وضعت قبل انتشار وباء كوفيد وتولي جو بايدن الرئاسة. وانخفضت البطالة، وعاد التضخم إلى المستوى الطبيعي. ولكن أسعار الفائدة مرتفعة إلى درجة غير مرغوب فيها، وكذلك العجز الحالي في الميزانية الفيدرالية. ومن الصعب خفضهما معاً في الوقت نفسه، خاصة مع ارتفاع مستوى أعمار السكان.
ووسط هذه الأوضاع، قدم كل من ترمب وكامالا هاريس مقترحات من شأنها زيادة عجز الموازنة بدلاً من تخفيضه، وعلى الرغم من أن تلك الحقيقة ليست مثالية، هناك فجوة كبيرة بين الحملتين– فترمب سيعمل على زيادة الديون بما يعادل ضعف الزيادة التي ستضيفها هاريس.
حتى هذا لا يكشف عن مساحة التباين الحقيقية بينهما. فمقترحات ترمب لا تؤدي فحسب إلى زيادة الديون بتريليونات الدولارات، بل إنها تفعل ذلك على الرغم مما سيترتب على كثير من أفكاره المتعلقة بالضرائب من تخفيض تلقائي في مزايا الضمان الاجتماعي.
في الواقع، يشير أحد التحليلات إلى أن خططه المتعلقة بالرسوم الجمركية ستؤدي إلى زيادة الضرائب على نحو 80% من السكان.
إن خفض مزايا الضمان الاجتماعي ورفع صافي الضرائب على معظم الناس وزيادة الديون بأكثر من 7 تريليونات دولار يُعد منهجاً شديد التهور، يعكس ضخامة واتساع التخفيضات الضريبية التي وعد بها ترمب الأقلية الأعلى دخلاً من الأميركيين.
زيادة الأعباء على الفقراء
منذ إعلان ترشيحه قبل عامين، تجنب ترمب ببراعة أي مناقشة واضحة للآثار الفعلية التي تترتب على هذه الأفكار. وبدلاً من ذلك، أطلق سيلاً لا نهاية له من الكلام الفارغ حول المهاجرين الذين يأكلون الحيوانات الأليفة والعديد من الأعمال الدعائية المثيرة ذات المحتوى المتدني.
ولكن مع اقتراب يوم الانتخابات، يبدو أن مؤيدي ترمب في مجتمع الأعمال قد أدركوا أن مقترحاته غير قابلة للتطبيق ومن شأنها أن تلحق الدمار بالنظام المالي. فالطريقة الوحيدة التي تجعل الأرقام تتوافق هي الجمع بين الضرائب على 80% من السكان الأقل دخلاً مع تخفيضات كبيرة في برامج مثل الضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية لكبار السن والمعاقين (ميديكير)، والمساعدة الطبية للفقراء ومحدودي الدخل (ميديكيد)، وطوابع دعم الغذاء، والمساعدات الفيدرالية للتعليم، وما إلى ذلك. ولم تتضح بعد الأوزان الدقيقة لهذه التخفيضات، غير أن جونسون مهتم بشكل واضح بخفض البرامج الصحية.
وباختصار، تتضمن أجندة ترمب فرض ضرائب أعلى على الطبقة العاملة وخفض الإنفاق على برامج الدعم ذاتها التي يعتمدون عليها، وذلك لتمويل التخفيضات الضريبية الضخمة لأمثال ماسك وبولسون.
الخدعة الرئيسية لحملة ترمب
من الخطأ الاعتراف بذلك علانية قبل أسبوع من يوم الانتخابات. ولكن الخطر السياسي بالنسبة لداعمي ترمب من رجال الأعمال هو أن الحملة كانت بارعة للغاية في إخفاء الحقيقة. فعبر تصريحاتهم في اللحظة الأخيرة، يستطيعون الفوز بالحُسنيين، وهما ضمان ألا تهيمن العواقب الوخيمة لمقترحات ترمب على الحملة، ثم التظاهر بأنهم حصلوا على تفويض جماهيري بالتغيير الجذري إذا فاز ترمب.
كانت هذه المناورة هي الطعم والخدعة الرئيسية لحملة ترمب الانتخابية.
طوال حملته الرئاسية الثالثة، روّج ترمب لفكرة أن عودته إلى المنصب ستعيد الأوضاع الاقتصادية لعام 2019. وبطبيعة الحال، كانت تلك الأوضاع قد تدهورت بشدة بحلول الوقت الذي غادر فيه البيت الأبيض، وانتشر فيروس كوفيد. إلا أن ترمب لم ينجح فحسب في إقناع العديد من الناخبين بأن اللوم لا يقع عليه في كل ما حدث في عام 2020، بل إن الجائحة لا علاقة لها بارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة التي شهدتها الولايات المتحدة منذ كوفيد.
هذا ليس صحيحاً. لقد تجاوز الاقتصاد الأميركي الجائحة، في عهد كل من ترمب وبايدن، بدرجة عالية من النجاح. لكن الزيادة الكبيرة في ديون أميركا كانت ثمن هذا الإنجاز.
معاناة مؤقتة
في 2025، لن تنجح المعادلة السياسية التي استخدمها ترمب عام 2017 بخفض الضرائب مع زيادة الإنفاق المحلي، بالإضافة إلى رفع الإنفاق العسكري. فالترحيلات الكبيرة ستجعل تمويل هذا الدين أصعب، وليس أسهل. ولا يوجد حل سهل أو غير مؤلم للمشكلات المالية المعاصرة، ولكن الإصرار على تخفيضات ضريبية بتريليونات الدولارات لأغنى شريحة من الأميركيين يجعل جميع الخيارات المتبقية أكثر مأساوية وإيلاماً.
حتى ماسك يعترف بأن سياسات ترمب ستؤدي إلى انخفاض مستويات المعيشة لمعظم الناس وليس ارتفاعها. ويزعم أن هذه “المعاناة المؤقتة” ستضع الأساس لتحقيق نمو أقوى على المدى الطويل.
ولكن لماذا؟ لقد تحسن مسار النمو الأساسي للاقتصاد الأميركي على مدى الأعوام الخمسة الماضية. وسبب حالة الغضب في أوساط الناخبين هو الاضطرابات المؤلمة فعلاً على المدى القصير التي سببها الفيروس أولاً، ثم التضخم في مرحلة ما بعد كوفيد-19، ثم رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة.
كل هذه المشكلات تتحسن حالياً. قولوا ما شئتم عن تردي ترمب الأخلاقي –وقد فعلت ذلك– ولكن من وجهة نظر السياسة الاقتصادية، فإن العيب الأكبر في حملة ترمب الانتخابية بسيط، وهو أنه يقترح العلاج بالصدمة على مريض يزدهر.
الخلاصة
في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية، روج حلفاء دونالد ترمب لفكرة ضرورة تقليص الإنفاق العام بشكل كبير ومفاجئ. هذا الاقتراح، الذي يدعمه رجال أعمال مثل إيلون ماسك وجون بولسون، يتضمن تخفيضات جذرية في برامج الرعاية الاجتماعية والصحية بهدف تمويل تخفيضات ضريبية للأثرياء. يصف ماسك هذا الأمر بـ”المعاناة المؤقتة” التي ستؤدي لاحقاً إلى نمو أقوى، ولكن المنتقدين يرون في هذا النهج خطراً كبيراً، خاصة وأن الاقتصاد الأميركي يظهر علامات تعافي وتحسن. يرون أن هذه السياسات قد تؤدي إلى نتائج عكسية على الطبقة العاملة وتزيد الأعباء عليهم في سبيل تحقيق مكاسب للأثرياء.
المصدر: صحيفة اقتصاد الشرق