عبد النبي العكري
يوم الجمعة 27 سبتمبر 2024 يوم مشهود لن يُمحى من الذاكرة؛ ففي هذا اليوم ألقى رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطابًا لا سابق له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة 79، والتي مثلث قمّة استثنائية لمناقشة أبرز قضايا العالم.
نتنياهو الذي دخل القاعة مُبتهجًا بالحضور الكبير، فوجئ بانسحاب غالبية الوفود، لكن نتنياهو جلب معه وفدا إسرائيليا كبيرا، إضافه إلى جلب الصهاينة الأمريكيين للاحتشاد في بلكونة القاعة للهتاف أثناء إلقائه لخطابه والترويج له. نتنياهو ألقى خطابا متشددا توعد فيه خصوم إسرائيل وهاجم الأمم المتحدة بقسوة مما بدد الآمال بوقف الحرب ما بين إسرائيل وحزب الله، بناءً على المشروع الأمريكي الفرنسي بوقف القتال لمدة 21 يومًا؛ استنادا إلى قرار مجلس الأمن 1701 لعام 2006، والذي بموجبه تمت ترتيبات ما بعد غزو إسرائيل للبنان في 2006. لكن لهذا الموقف أسبابه التي توضحت بسرعة.
في مساء ذات اليوم الجمعة، أغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية على حي حارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت مستخدمه قنابل ثقيلة مضادة للتحصينات لتمحو 6 عمارات سكنية تمامًا، وتلحق أضرارًا بالعديد من العمارات المجاورة. اهتزت بيروت من قوة القصف الذي تردد صداه في لبنان والعالم ويصعب تصور هول الكارثة.
ذكر المسؤولون الإسرائيليون أن الهدف الذي تم تدميره بالكامل هو المقر المركزي لحزب الله وأن هناك اجتماعا لقياده حزب الله بمن فيهم سماحة السيد جسن نصر الله الأمين العام لحزب اللة؛ حيث أكدت إسرائيل لاحقا أنها عملية خطط لها منذ وقت، وأن المستهدف هو السيد حسن نصر الله، وأنه وتأكد لاحقا استشهاده مع مجموعة من قيادات حزب الله. تبين أن نتنياهو أعطى موافقته على العملية الإرهابية قبل سفره إلى نيويورك للمشاركة في قمة الأمم المتحدة وأظهرته في صور لاحقة بعد الخطاب وهو يتابع نتائج العملية. والحقيقة أن العملية الإجرامية التي استهدفت حارة حريك هي ترجمة لخطاب نتنياهو في الأمم المتحدة.
شرعنه الإرهاب وتقويض الأمم المتحدة
في بداية خطاب نتنياهو، قال: “إنني لم أكن لآتي إلى نيويورك لأخطب في الأمم المتحدة في هذه الظروف التي تمر بها إسرائيل والمنطقة لولا الكثير من الخطابات التي ألقيت والمليئة بالكراهية ضد دولة إسرائيل والكذب بحقها؛ بل والمطالبة بطردها من الأمم المتحدة. ولذى فإنني سأتحدث عن بلادي وعن الحقيقة”.
الفكرة المركزية لخطاب نتنياهو هو ما عبّر عنه برفع لوحتين لمنطقه الشرق الأوسط وفي القلب منها إسرائيل وتمثل الأولى باللون الأخضر وعبرها طريق يربط آسيا بأوروبا ويمتد من المحيط الهندي إلى البحر المتوسط عبر الجزيرة العربية، وينتهي بإسرائيل وترمز لتكتل الخير والذي سيحقق السلام والتنمية والتعاون والتجارة فيما بين دول المنطقة، مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر وإسرائيل. أما اللوحة الثانية باللون الأسود وترمز إلى تكتل الشر وتضم إيران والعراق وسوريا ولبنان وتهدف إلى نشر الإرهاب وتقويض الاستقرار والفوضى والتوترات وبالطبع أزاله إسرائيل. وبذى لابد من هزيمة محور الشر وانتصار محور الخير.
نتنياهو هاجم الأمم المتحدة بعنف؛ حيث ذكر انه منذ عام 1984- عندما كان يخطب من هذا المنبر قبل 40 عامًا كممثل لإسرائيل حينها، وحتى اليوم فان هناك خطابا سائدا في الأمم المتحدة معاديا لإسرائيل ويعمل على إخراجها من الأمم المتحدة وهي الدولة الوحيدة لليهود والدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. ونتنياهو هنا يتجاهل ان الأمم المتحدة هي من اضفى الشرعية على قيام إسرائيل خلافا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
كما عرض نتنياهو للسجل الاستثنائي لقرارات الأمم المتحدة بإدانة إسرائيل، وتجاهل ان إسرائيل ومنذ قيامها في 1948 وهي ترتكب من الجرائم ضد الشعب الفلسطيني بشكل خاص ومحيطها العربي بل والعالم مالا تضاهيها أي دوله أخرى؛ بل إن نتنياهو يتفاخر في خطابه ان الحرب في غزة لن تتوقف الا بهزيمه واستئصال حماس وان الحرب في لبنان لن تتوقف إلّا بهزيمة واستئصال حزب الله، حتى تكون هذه الحرب آخر الحروب على حد زعمه!
يُعيد نتننياهو سرديته الكاذبة لتطور الاحداث وحرب إسرائيل على الشعبين الفلسطيني واللبناني ويدفع بإسرائيل إلى حرب واسعة تشمل إيران بمشاركة أمريكا، إلى حدث 7 اكتوبر 2023 ويعيد تكرار الأكاذيب مثل: اغتصاب النساء وقطع رؤوس الأطفال وقتل المدنيين.
لقد جلب نتنياهو إلى قاعة الأمم المتحدة عشرات من أقارب الرهائن ومن اطلق سراحهم لتعزيز ادعاءاته، .كما كرر اكاذيبه بان جيش الاحتلال الإسرائيلي هو “اكثر جيش أخلاقي” في العالم، وتجاهل عمليات الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين المدنيين وغالبيتهم أطفال ونساء والتدمير الشامل لكل ما هو قائم على الأرض في غزّة والحصار الشامل للقطاع، وعمليات القتل في الضفة الغربية وحرب التدمير الممنهج في لبنان، وما يجري في سجون الاحتلال من جرائم وما يرتكبه المستوطنون الإسرائيليون من فضائع.
تجاهل نتنياهو 75 عاما من اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها و57 عامًا من احتلال ما تبقى من فلسطين والاراض العربية وسلسلة لا تتوقف من الحروب والاحتلالات والاعتداءات الإسرائيلية.
بلغت الوقاحة ذروتها حين قال نتنياهو إن إسرائيل لا تفرض حصارًا على غزّة؛ بل تمدها بمئات الالاف من أطنان المساعدات الغذائية والطبية؛ بما يفوق احتياجات سكان غزّة، ويدعي ان حماس تصادر هذه الأغذية وتبيعها في السوق السوداء!!
يعرض نتنياهو سير الاحداث منذ 7 أكتوبر 2023، بأنه بدا بغزو حماس لإسرائيل وارتكابها لمجزره شبيه بـ”الهلوكست”، لكن ذلك بأوامر من إيران التي هاجمت إسرائيل بآلاف الصواريخ والمسيرات والتي أمرت عملاءها حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن ومنظمات إرهابية في العراق بالمشاركة في حرب تستهدف إسرائيل.
هنا هدد نتنياهو إيران بأن يد إسرائيل الطولى ستطال أي موقع وأي مسؤول في إيران؛ بل في الشرق الأوسط، ردًا على أي اعتداء ضدها، وتفاخر تكرارًا بجيش إسرائيل القادر للوصول لاعداء إسرائيل في أي مكان.
وفي المحصلة.. فان إسرائيل وهي تدافع عن نفسها فإنها تدافع عن البشرية المحبة للسلام والديمقراطية في مواجهة إيران الدكتاتورية وعليكم أن تختاروا مابين معسكر الحضارة الذي تنتمي اليه إسرائيل أو معسكر الهمجية الذي تنتمي اليه إيران. واستشهد نتنياهو بـ”الاتفاق الإبراهيمي” كتجسيد لهذا الخيار .
هاجم نتنياهو بعنف قرار محكمة العدل الدولية القاضي باعتبار إسرائيل تمارس الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني وبعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وللاستيطان وضرورة انسحابها وتفكيك المستوطنات. كما هاجم قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاعتراف بدولة فلسطين وما يترتب عليه من انهاء الاحتلال الإسرائيلي وعضويتها الكاملة في الأمم المتحدة. وهاجم بشده مذكره التوقيف من قبل المدعي العام لمحكمه الجنايات الدولية بحقه وبحق وزير الدفاع جالنت وطالب باعتقال من يعتبرهم مجرمي حرب في غزّة ولبنان وسوريا وإيران .كما هاجم بعنف الأمم المتحدة واصفا إياها بالبيت الأسود ومعاداة السامية.
وفي نهاية خطابه، اكد نتنياهو ان إسرائيل ستنتصر وهو نصر للبشرية والحضارة!!
حرب شاملة على لبنان
ما إن انتهى نتنياهو من خطابه حتى ظهر في الصور وهو يتابع بالهاتف العملية التدميرية والتي قام بها سلاح الجو الإسرائيلي على مجمع سكني في حارة حريك بالضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت بقصفها بالقنابل المدمرة للتحصينات والتي تستهدف الاقبية وما هو تحت الأرض وكذلك مافوقها، وقد تبين لاحقا حسب تصريحات المسؤولين العسكريين الإسرائيليين ان هذا الهجوم مخطط له منذ زمن، وتنفيذه تم في الوقت السانح عندما توفرت المعلومات لدى الشاباك والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عن تواجد السيد حسن نصر الله وقياديين من حزب الله في المكان فقاموا بعمليتهم المدمرة دون أي اعتبار لمئات العائلات في هذه المنطقة السكنية المكتظة. وهكذا سويت العمارات بالأرض ودفن تحت الأنقاض العديد من الضحايا. لكن إسرائيل لا تعير أي اهتمام لأرواح المدنيين العرب.
اتضح أيضاً أن إسرائيل أبلغت حليفتها أمريكا بالعملية قبيل تنفيذها، وأمريكا متواطئة بالطبع في هذه الجريمة البشعة. ورغم نفي المتحدثين باسمها في البداية بعلم أمريكا المسبق بالعملية، إلّا أن كلا من الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن عادا للتأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وأن أمريكا تعمل لعدم تصاعد الموقف وتوسع الصراع دون إدانة هذه العملية البربرية.
تظهر التطورات السابقة واللاحقة أن العملية الإسرائيلية الوحشية تشكل باغتيال السيد نصر الله ورفاقه منعطفا مهما في تحول مسار حربها الشاملة بتركيزها على لبنان مع استمرار حربها بمستوى منخفض في غزّة. وهكذا وبعد عملية حارة حريك الغادرة، عمدت المخابرات الإسرائيلية إلى تصعيد الحرب النفسية كمكون من الحرب الشاملة. فقد وجهت من خلال المنشورات والاتصالات الهاتفية إلى انذار إسكان في أحياء الضاحية الجنوبية مثل الغبيرى وحارة حريك والشياح والقنطاري إضافة لمدن الجنوب مثل صيدا وصور وبنت جبيل والبقاع مثل بعلبك والهرمل وقرى الجنوب بإخلاء أحياء أو مبانٍ معينة، بدعوى تواجد مقاتلي أو تجهيزات لحزب الله رغم كونها مساكن مدنية.
وهكذا فإن إسرائيل مصممة على تدمير لبنان حاضن المقاومة وتهجير العديد من سكانه، وإثارة الفوضى وشل البلاد وتحريض اللبنانيين ضد المقاومة وحرمانها من حاضنها الطبيعي .
كما إن إسرائيل تعمد لعزل لبنان والانفراد به بالتحكم بحركة الطيران المدني عبر مطار رفيق الحريري. علاوة على أن اجتياح الجنوب اللبناني متوقع في ضوء ماتراه إسرائيل بالعوامل المشجعة باغتيالاتها للعديد من قيادات حزب الله العسكريين والسياسيين وآخرهم الشهيد الأمين العام حسن نصر الله، وإجبارها لسكان قرى الجنوب للنزوح شمالًا وبالتالي إفراغ جنوب نهر الليطاني من سكانه المؤيدين للمقاومة الإسلامية وحزب الله؛ مما يسهل عملية اجتياح إسرائيلية محدودة ومتوقعة.
هذا ما تروج له إسرائيل، ولكن هناك المقاومة الإسلامية والتي بالرغم من خسائرها البشرية والمادية، إلّا أنها قادرة على إعادة ترتيب صفوفها ومواجهة الغزو الصهيوني المرتقب.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية