ما إن يدير عبدالحكيم، الموظف في مجلس الضمان الصحي، سيارته من بيته شمال الرياض حتى يصل إلى مقر عمله أقصى الغرب، إلا وتلفت نظره آلاف الرافعات الراسيات التي تغطي بعض أفق العاصمة السعودية وسط عشرات المشاريع العملاقة مترامية الأطراف.
عبدالحكيم البالغ من العمر 24 عاماً، يعبر طريق الملك سلمان المتقاطع مع طريق الملك فهد، حيث مشروع الأفنيوز مول الضخم، معتقداً لأول وهلة أن مدينة سيتم تشييدها هنا مع تكالب الرافعات التي لم يشاهد مثلها في مكان واحد على حد قوله، إذ يقع المشروع على مساحة 390 ألف متر مربع.
المشاهد المماثلة عديدة مروراً بحديقة الملك سلمان والمسار الرياضي والمربع والدرعية وغيرها حتى يستقر المطاف إلى أرض العجائب القدية المدينة الواقعة غرباً على أعتاب العاصمة وسط جبال طويق المهيبة بمساحة 334 كيلومتراً مربعاً، كأكبر مدينة ترفيهية في العالم، حيث تتجاوز مساحة “ديزني” بضعفين ونصف.
مشاريع تريليونية
تقترب تكلفة مشاريع الرياض من تريليون ريال، إذ تبلغ تكلفة مشروع تطوير الدرعية 236.2 مليار ريال، فيما تصل لمشروع القدية إلى 30 مليار ريال، أما مشاريع حديقة الملك سلمان والرياض الخضراء والمسار الرياضي والرياض آرت فتبلغ 86 مليار ريال.
تبلغ تكلفة مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام 84.3 مليار ريال، ومطار الملك سلمان 108.7 مليار ريال وأفنيوز الرياض 16 مليار ريال، فيما تصل تكلفة مشروع المربع إلى 375 مليار ريال، بحسب بيانات معلنة.
ويقع مشروع المربع على مساحة تتجاوز 19 كيلومتراً مربعاً، ومساحة طابقية تصل إلى أكثر من 25 مليون متر مربع، وسيوفر 104 آلاف وحدة سكنية، و9 آلاف وحدة ضيافة، ومساحات تجارية تمتد إلى 980 ألف متر مربع.
وذلك إضافة إلى 1.4 مليون متر مربع من المساحات المكتبية، إلى جانب 620 ألف متر مربع لمرافق الترفيه، و1.8مليون متر مربع للمرافق المجتمعية.
معروض الرافعات
يرى عبدالرحمن المونس المختص بالتطوير العقاري أن ما يحدث في الرياض حالياً لم يحدث من قبل، ووصفه بالصخب الحميد على وقع أصوات آلاف الرافعات المتمركزة في سماءات العاصمة وسط المشاريع العملاقة، لافتاً إلى أن الرياض تحولت إلى ورشة عمل كبرى، تسابق الزمن بطفرة بناء غير مسبوقة وأنشطة مقاولات مترامية الأطراف سعيا إلى تحقق مستهدفات رؤية السعودية 2030، وحركتها اليومية مؤشر يومي لتقدم المشاريع العملاقة.
ومع المشاريع الكبرى، فضلاً عن نمو القطاعين التجاري والصناعي، حظيت الرياض بطلب متزايد على الرافعات، التي تعد جزءاً أساسياً لتحسين كفاءة تنفيذ المشاريع الضخمة والمعقدة.
هذا الطلب المتزايد، بحسب مختصين تحدثوا لـ”الاقتصادية”، أسهم بصورة مباشرة في جفاف معروض الرافعات في المنطقة، خاصة مع تأثير تباطؤ سلاسل الإمدادات في استيراد الرافعات ومكوناتها، والقيود على النقل البحري والجوي في ظل الاضطرابات الجيوسياسية، إلى جانب قدرة الإنتاج المحدودة لدى الشركات المصنعة أمام تزايد الطلب.
رياض خضراء جريئة
وسط كل هذا الزخم والمشاريع الإنمائية، لم تغفل الرياض أهمية البيئة والاستدامة حينما أطلقت الحكومة مشروع الرياض الخضراء لزيادة المساحات الخضراء من الأشجار ضمن مبادرة لتشجير المدينة ذات الطابع الصحراوي.
لكن مختصين في المشاريع البيئية قالوا لـ”الاقتصادية”: “إن الرياض الخضراء إحدى الأفكار الجريئة والمشاريع غير التقليدية، رغم أن بين طياتها بعض التحديات كندرة المياه والبنية التحتية والأجواء الحارة، ومع ذلك يتسارع العمل نحو إتمامها ضمن مستهدفات الرؤية بيئياً”.
التنوع الاقتصادي، يعد أهم ركيزة تدعم خطط رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بعيداً عن الاعتماد على النفط، حيث تؤدي المشاريع الإنمائية دوراً محورياً في جهود الحكومة الرامية إلى تحويل السعودية، وعلى رأسها العاصمة الرياض، إلى منطقة جاذبة ترتكز على قطاعات واعدة مثل الترفيه والسياحة والتصنيع والرياضة.
أكبر سوق للبناء
بوجود مشاريع كبرى قيد التنفيذ، يُتوقع أن يصل إنفاق السعودية إلى أكثر من 175 مليار دولار سنوياً على المشاريع الضخمة خلال الـ4 الأعوام المقبلة بحسب تقرير سابق لـ”ماكينزي” للاستشارات، فيما توقع تقرير “نايت فرانك” أن تكون السعودية أكبر سوق لقطاع البناء في العالم عام 2028.
وتحتاج المشاريع الضخمة مثل حديقة الملك سلمان، القدية، مترو الرياض، الدرعية، المربع، المسار الرياضي، ومول الأفنيوز، إلى آلاف الرافعات المختلفة، خاصة مع مشاريع الصناعة والطاقة الأخرى، وتطوير البنية التحتية كالطرق والجسور والأنفاق التي تتطلب آلاف الرافعات.
تحديات توفير المعروض
استعانة الشركات برافعات الشرق الأوسط، ما هو إلا نتيجة للطلب العالي والعرض المحدود، الذي يدفع الأسعار للارتفاع ويزيد تكلفة المشاريع، والضغط على السوق مع تنافس الشركات.
هذا ما يؤكده عبدالعزيز العطيشان، الخبير في قطاع المقاولات وعضو الشورى السابق، مشيراً إلى أن زيادة الطلب على الرافعات بسبب المشاريع، يقلل العرض ويرفع سعر إيجار الرافعات.
واقترح لحل المشكلة، إنشاء شركة ضخمة يؤسسها المقاولون، بحيث يشارك كل مقاول بما لديه من معدات بعد تقييمها، مبيناً أن ذلك لن يبقي المعدات بلا عمل نهائيا ولن يدفع الشركات لاستيراد معدات كثيرة.
بورصة الرافعات
تعد أسعار الرافعات وتكاليف الإيجار متفاوتةً بناءً على الاحتياجات المحددة للمشروع، ومن العوامل المؤثرة في الأسعار وتكاليف الإيجار، نوع الرافعة وحجمها، فضلاً عن التكنولوجيا الحديثة كالتحكم عن بعد وأنظمة الأمان، إلى جانب الفترة الزمنية لعقود الإيجار، حيث عادة تكون العقود الطويلة أرخص من القصيرة.
تتضمن العوامل أيضاً الموقع في ظل تكلفة النقل والتركيب التي يمكن أن تؤثر في إجمالي تكلفة الإيجار، والصيانة والدعم الفني، حيث شمول بعض العقود عليها يمكن أن يزيد من التكلفة.
مع فورة الطلب على الرافعات في العاصمة السعودية الرياض، وتحولها إلى سوق أشبه بالبورصة متغيرة الأسعار، كشف مديرو مشتريات في شركات مقاولات سعودية كبرى أن عدد الرافعات في الرياض حالياً يتجاوز ألفي رافعة، وفق تقديراتهم.
وأشاروا إلى أن سعر إيجار الرافعة العملاقة “ألف طن” قد يصل إلى نصف مليون ريال شهرياً، منوهين بأن الطلب على الرافعات يتصاعد بصورة كبيرة مع تزايد المشاريع العملاقة في الرياض.
وقدروا نسبة ارتفاع أسعار إيجار الرافعات من 7 % إلى 8 % سنويا مع طفرة البناء غير المسبوقة في العاصمة حاليا، لافتين إلى أن سعر إيجار الرافعات الـ400 طن تبلغ 220 ألف ريال، والصغيرة 25 طنا 18 ألف ريال شهرياً.
مشاريع غير مؤقتة
بخلاف الإمارات وقطر اللتان شهدتا نمواً “مؤقتاً” في استخدام الرافعات بفعل إكسبو 2020 دبي، ومشاريع كأس العالم في قطر 2022، تبقى السعودية مستمرة في زيادة الطلب على الرافعات بفعل المشاريع المتنوعة والمستمرة، حتى كأس العالم 2034 على أقل تقدير.
وقال الشيخ فيصل بن قاسم آل ثاني، مؤسس شركة “الفيصل” القابضة في قطر الناشطة في قطاعات عدة من ضمنها الإنشاءات والمقاولات: “إن قطاع الإنشاءات في السعودية ودول الخليج يشهد نشاطا كبيراً، وهذه الظاهرة ليست جديدة، بل هي امتداد لما تشهده المنطقة من تطور وازدهار منذ فترة طويلة، خاصة بعد اكتشاف النفط والغاز”.
آل ثاني استدل على ذلك، بالسعودية التي تقوم باستثمارات ضخمة ومشاريع طموحة في إطار رؤية 2030 التي تعزز من مكانة السعودية كمركز استثماري واقتصادي عالمي.
توقع آل ثاني، الذي يشغل أيضاً منصب رئيس مجلس الإدارة الشركة القطرية، أن يكون مستقبل حركة المشاريع في المدن السعودية واعداً للغاية، مع مزيد من الفرص للاستثمار والنمو في القطاعين السكني والتجاري، منوها بالتطور الملحوظ أخيرا خاصة في قطاع الإنشاءات وغيره من القطاعات ذات الصلة.
سوق مليئة بالفرص
آل ثاني لفت إلى أن السعودية الآن تفتح أبوابها للاستثمار بطريقة متقدمة وسهلة وواعدة، ما يجعلها وجهةً جاذبةً للاستثمارات العالمية في المجالات المختلفة، مدعومة كذلك بتنوّع طبيعتها ومناخها على امتداد مساحتها الكبيرة، حيث تضمّ المناطق الصناعية والزراعية والصحراوية.
آل ثاني أوضح أن السعودية سوق كبيرة ومليئة بالفرص، وقطاع الإنشاءات فيها يعد جاذبا للغاية، مبيناً أن الحكومة تعمل بجد لتطوير البنية التحتية وتسهيل الإجراءات للمستثمرين المحليين والدوليين، ما جعل من السعودية بيئةً استثمارية جذابة.
وأشار إلى عديد من المقوّمات التي تعزز ازدهار قطاع العقارات والضيافة في السعودية، مثل الشواطئ والمناطق السياحية والأثرية، وتُقدم عديد من الفرص للاستثمار في قطاع العقارات وغيره من القطاعات التابعة.
المساحة الكبيرة والمقومات والاستثمارات الضخمة والبيئة الواعدة، كفيلة بما لا يدع مجالاً للشك، بأن تدفع الطلب على الرافعات بصورة كبيرة في السعودية، وتعيد تمركزها في منطقة الخليج والشرق الأوسط.
تحديات اقتصادية
مع النمو المستمر والمتزايد للرافعات، طالب مختصون بتعزيز الصناعة المحلية لتقليل الاعتماد على الاستيراد وتلبية الطلب المحلي، وتشجيع الشركات المحلية على الدخول في شراكات مع شركات عالمية لنقل التكنولوجيا والمعرفة.
وقال الكاتب الاقتصادي أحمد الشهري المختص في إدارة إستراتيجية الأعمال: “إن المبادرات الإستراتيجية التي يقودها صندوق الاستثمارات العامة المعروفة بمحفظة المشاريع الكبرى في القطاعات المختلفة مثل السياحة والترفيه والتطوير العقاري مثل نيوم والقدية والبحر الأحمر وروشن، تسير جنباً إلى جنب مع مبادرات البرامج أخرى مثل تطوير القطاع المالي والاستدامة المالية والصحة والإسكان والصناعات الوطنية واللوجستية، لتحقيق التنويع الاقتصاد الوطني”.
الشهري أضاف: “اللافت أن اقتصادنا حقق إيرادات غير نفطية بـ50% قبل الانتهاء من المشاريع الكبرى، والنتائج ستكون مضاعفة عند الانتهاء من المشاريع الكبرى”.
وفيما يتعلق بالتحديات التي تواجه المشاريع الكبرى، أوضح أنها تكمن في هيكل التمويل واستدامته مع التقلبات والتغيرات في الأوضاع الاقتصادية المحلية والعالمية، فضلا عن تغيرات الطلب في القطاعات المستهدفة مثل السياحة والعقارات التي قد تؤثر في تلك المشاريع.
تابع: “لكن الغايات العليا التي تستهدفها الرؤية هي بناء منظومة هيكلية لما بعد التقلبات الاقتصادية”، وأردف: “مهما كان نوع أو مدة التقلبات الاقتصادية، تستمر السعودية في التمويل، ويتبع ذلك معالجة تأخيرات التنفيذ، ثم التقييم دوريا من خلال نظام حوكمة لتلك المحافظ الكبرى”.
المصدر: صحيفة اقتصاد الشرق